معنى الحياة في العالم الحديث

إن كتاب معنى الحياة في العالم الحديث للمؤلف عبدالله بن عبدالرحمن الوهيبي، الصادر عن مركز تكوين للدراسات والبحوث، إنه لكتاب ذا قيمة عالية وندرة في التأليف والبحث القيّم، إنه يفسر المعنى، كأهمية وكقضية عالمية يشهدها كل فرد، إن تفسير أو فلسفة المعنى في العالم الحديث، يجب فهمه والتعمق به، لأنه يعلمنا كيفية فهم الحياة والتعايش مع الأفراد، ولأنه سؤال مهم، فسّر المؤلف هذا الكتاب، والذي لديه مدخل نظري، وتسعة فصول، وخاتمة. 


مدخل نظري: 

سأتناول في هذا المدخل(١) مفهوم معنى الحياة، ثم أشير إلى(٢) دور العلمنة والعقلنة الحداثية في تجريد العالم من المعنى، وأذكر(٣) بعض اللحظات الحياتية التي توقظ الدافع إلى معرفة الغرض من الوجود وغاية الحياة، ثم أتوقف عند المحور المركزي في أزمة المعنى المعاصرة الذي يتمثل في(٤) فردنة معنى الحياة، وأخيرًا(٥) أعرض لأبرز الإجابات المعاصرة عن سؤال المعنى. 

١)يساق مفهوم معنى الحياة عادةً ويراد به إما(أ) معنى الحياة بالنسبة إلى الفرد، أي معنى حياة الفرد، أو الدلالة النهائية لدلالات الأفعال الجزئية كلها، والمقصود بها السياق أو الإطار العام للزمن أو الحياة الذي تبدو من خلاله  هذه الأفعال معقولة وذات مغزى، وإما(ب) معنى الحياة مطلقًا، أي مخطط الوجود برمته، من الواضح الارتباط بين هذين المفهومين، فمعنى الحياة العام يؤسس للمعنى في حياة الفرد، كما أن معنى الفعل اليومي يستمدّ من معنى الحياة بجملتها، وموقع الفرد داخلها.

٢)يرجع عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر(ت١٩٢٠م) أزمة المعنى في الحداثة إلى مسار تطورات العلمنة والعقلنة في تاريخ الغرب الحديث، ويرى أن الفهم العلمي للعالم هو السبب في مسار نزع السحر عن العالم، أو إلغاء التعظيم ومحو القداسة عن الكون، لأن المعرفة التجريبية في شكل عقلاني قد حققت عملية نزع السحر عن العالم وتحويله إلى آلية سببية، واستبعدت صلة الرب بالعالم، ووقفت ضد ادعاءات المصادرة الأخلاقية بأن العالم كوسموس أو كون يأخذ نظامه من الله، ومن ثمّ فهو عالَم موجّه على نحوٍ له معنى أخلاقي، مهما كان شكله وكانت النتيجة أن النظرة التجريبية للعالم والموجّهة بأكملها توجيهًا رياضيًا، هي من حيث المبدأ تظهر الإنكار لكل طريقة نظر من شأنها أن تتساءل عمومًا عن معنى ما، للأحداث الجارية داخل العالم.

٣)إن الأسئلة المتعلقة بالحياة ومعناها تعود للبروز مرةً أخرى أمام الفرد بشكل مباشر، في مجريات الحياة اليومية أكثر من بروزها في مستوى الرؤى الكونية؛ فمهما كانت معيشة المرء طيبة ومريحة، فإنه ولا بد سيعاني بسبب وضعه الإنساني، لأن النقائص تحيط بالبنية البشرية من كل جانب، فالأفعال اليومية تصبح مع مرور الوقت مملّة، وهويات الفرد المفضلة تتقادم، والملاذ المعتادة تبهت وتضجر، ويشعر المرء أحيانًا برتابة علاقاته وصداقاته الشخصية، ثم يتساءل يومًا ما فائدة هذا كله؟ ، فالحاجة الماسّة إلى تحصيل معنى الحياة تظهر بوضوح شديد في لحظات ومواقف معينة أكثر من غيرها، وهي المواقف التي اصطلح الفيلسوف النفساني الألماني كارل ياسبرز(ت١٩٦٩م) على تسميتها حالات الحدود أو المواقف النهائية، وهي الأحوال التي يشعر فيها الفرد شعورًا كاملاً بالخروج من اللحظة الآنية، ومن الشعور الرتيب بالحياة الحسية المباشرة، وهي اللحظات التي لا يمكن تجاوزها، ولا تغييرها.

ويتجلّى فيها الضعف الإنساني وهشاشته المفرطة، ومن أبرزها، الخوف، والألم، والوحدة، والموت، واستحالة الاعتماد على العالم، والوقوع في الذنب، وأضيف إليها الملل. 

٤)مع ضخامة سؤال المعنى وحوهريته للكائن الإنساني إلا أن منظومات الحداثة الجماعية لم تولِ هذا السؤال العناية الكافية، فبعد ضمور التدين العام، وتلاشي السلطة السياسية للكنيسة وتضاؤل نفوذها الاجتماعي؛ لم يعد سؤال المعنى مطروحًا للشأن العام، شأنه في ذلك شأن معظم الاعتقادات والسلوكيات المنتمية للحقل الديني والأخلاقي. 

٥)يرى المخرج والكاتب السينمائي الأمريكي وودي آلن(ت١٩٣٥م) أن الإنسان يسير بالضرورة إلى مكان سيء، وسيصله لا محالة. وأن الكون بل كل شيء سينتهي في وقت ما، ومع ذلك فإن دور الفنان يتمحور حول إقناع الناس أن الحياة لا تستحق أن تعاش، وهي مهمة صعبة بطبيعة الحال وفقًا للمعطيات السالفة، ولذلك يقترح تقنية التشتيت كحلّ لهذه المعضلة، ويقول إن انشغاله الشخصي بصناعة الأفلام، والتعامل مع المشكلات الفنية، كالتفكير في إتقان شخصيات الفيلم لمشهد معين تفيد مع تفاهتها في تشتيت النفس عن التفكير في المأزق الوجودي، فصناعة الأفلام تشتيت رائع.


الفصل الأول: الأنا في العقود الأخيرة:


أخصّص هذا الفصل لرسم خارطة تمهيدية للظروف التي تأزّم ضمنها سؤال المعنى، وقبل ذلك أشير إلى فقرة تمهيدية للظروف التي تأزّم ضمنها سؤال المعنى وقبل ذلك أشير في فقرة تمهيدية إلى(١) بدايات ظهور الارتباكات النفسية والهوياتية في الحداثة، وبعض مظاهر الآلام والمآزق النفسية الشائعة في العقود الأخيرة، ثم أنتقل للحديث عن لحظتين مهمتين في القرن العشرين تكشفان عن طبيعة التحوّل أو الانقلاب في النموذج الثقافي والاجتماعي المعاصر للهوية والذات والعلاقات، اللحظة الأولى منهما تناقش(٢) تطور المناهج العلاجية النفسية الوجودي بالتحديد، بينما تناقش اللحظة الثانية(٣) بروز أزمة المراهقة، ثم أواصل الكشف التفصيلي لملامح(٤) فردانية تحقيق الذات، وأختم(٥) بتحليل مفيد لعالم الاجتماع آلان إهرنبرع يصل بين انتشار ظاهرتي الكآبة والإدمان ونموذج الفردانية المعاصرة، مشيرًا إلى دلالات ذلك في سياق أزمة المعنى.

١)في القرون الأخيرة تبلورت تدريجيًا مسيرة تحوّلات شاملة اجتاحت مجمل مناطق العالم، واستهدفت العقائد الدينية، والبُنى الثقافية، وأنساق الاجتماع البشري، وأنماط العلاقة بالزمان، وهذه العملية الانتقاليّة للكبرى سميت بالحداثة، واتَّسمت بارتكازها على جدلية ملتبسة تعتمد على الهدم والبناء، والتحولات السريعة، والانقلابات المتكررة، والتدمير الابداعي المزمن للأشياء والعلاقات والذوات والهويّات بغية خلق بدائل جديدة دائمًا، وتحقيق مواكبة لشيء غامض يصعب تحديد أو وصفه.

٢)في منتصف الثلاثينات من القرن العشرين حظي العلاج النفسي باهتمام متزايد، فالناس في بحثهم عن معنى حياتهم لم يعودوا يذهبون إلى رجل الدين ولا الفيلسوف، وإنما يستشيرون المحلل النفسي، فقد ارتبط تطور النماذج العلاجية في الحقل النفسي بتقلُّبات الواقع الاجتماعي والثقافي في الغرب الأوروبي والأمريكي. 

ومن مطلع الخمسينيات من القرن العشرين ظهرت ألوان مختلفة من الأزمات النفسية، وتركزت معظم الشكاوى حول فقدان الشعور بالأنا، أو الإحساس بالفراغ أو الركود، أو انعدام المعنى، أو فقد احترام الذات، وتضاءلت شكاوى المرضى القديمة من الخوف وأنواع الهوس والهستيريا. 

٣)ومن أشهر الأطروحات التي حاولت معالجة هذه الظاهرة أطروحة المعالج النفسي إيريك أريكسون الذي يرى أن الهوية هي عملية مستمرة طوال الحياة وتتأسس ذاتيًا أثناء مراحل النمو، ومعرَّضة لأزمات تستهدف الأنا، وحدَّد في أطروحته ثمانية مراحل في تكوين الهوية.

والمرحلة الخامسة هي مرحلة أزمة المراهقة واختلاط الأدوار، ففي هذه المرحلة يجرب المراهق مختلف الأدوار، وتتعقد الأزمة عندما يسعى إلى اكتشاف ذاته، واختيار طموحاته، وعندما يبدأ المجتمع بالسماح له بحرية أكبر في الفعل والعمل مما قد ينتج عن هذه الحالة تشوش في الهوية.

٤)نشر الصحفي توم وولف في أواسط السبعينيات مقالاً سماه عقد الأنا يرصد فيه الظواهر الجديدة في المجتمع الأمريكي التي تدور حول التمركز حول الذات، والتغني بالحلم بتغيير الحياة والسعي خلف الرغبات التي كانت في السابق محصورة في الطبقات العليا، وشيوع الجلسات النفسية والجماعية، التي يتحدث فيها كل فرد بعمق عن ذاته. 

وفي الربع الأخير من القرن العشرين شاع نسبيًا نوعان على الأقل من الاضطرابات الشخصية:

الأول: تكاثر الميول النرجسية، وني نمط ثابت من الشعور بالعظمة، والحاجة إلى الإعجاب، والافتقار إلى التعاطف، وظهر بسبب الانشغال المفرط بالهوية الشخصية، ومحاولات بنائها ذاتيًا. 

الثاني: اضطراب الشخصية الحديَّة، وهو نمط شامل من عدم الاستقرار في العلاقات مع الآخرين، وفي صورة الذات، والوجدان، والاندفاعية الواضحة.

وهذه الملامح تشكل النسخة المعاصرة والأحدث من الفردانية الليبرالية والآفات المتصلة بها، والتي يسميها تشارلز تايلور فردانية تحقيق الذات.

٥)شرح عالم الاجتماع الفرنسي آلان اهرنبرغ ملامح أزمة الذات المعاصرة، بسبب تغيُّر النموذج الثقافي الذي يلح بشدة على أن يكون المرء ذاته، وأن يتحقق بها. 

اعتبر إهرنبرغ الكآبة والإدمان من نتاج التصور الفرداني عن السيادة، الحرة على الذات. 

لأن تراجع التقاليد الاجتماعية والأخلاقية أدى إلى تضخم مساحة صنع القرارات اليومية في حياة الفرد، والشأن المجتمعي العام مما أسهم في انتشار ظواهر الإدمان بصورة مختلفة.


الفصل الثاني: الذات الحديثة: الجذور والآثار:

في هذا الفصل أضع نقاطًا متفرقةً بغية تقريب بعض ملامح الإجابة عن السؤال الضخم. وأبدأ أولاً(١) باستكشاف عام للجذور القديمة لإثبات الذات وتأسيس الهوية الشخصية، ثم أتتبع بعض المحطات التاريخية لمفهوم الذات والانفعالات وعلاقتها بالهوية والمعرفة، في(٢) بنية النظرية القانونية والسياسية الحديثة، وفي(٣) موقع العواطف والشعور الانفعالي في الفلسفات الحديثة وانعكاساتها الأخلاقية المعاصرة، ثم أنتقل لتوضيح دور(٤) الحركة الرومانتيكية والمذهب التعبيري، ومن ثمّ اعتبار أن(٥) الذات هي مصدر المعنى، فقد أصبحت الذات تحظى باهتمام كبير في الثقافة الحديثة، أعرض لبعضها كما تجلّت في أدبيات(٦) الاعتماد على الذات، ثم أنتقل بعد ذلك إلى(٧) تحليل بعض المظاهر المهمة في حقلي الرواية وأدب الاعترافات واليوميات، ودلالات تاريخ كلا الحقلين وتطوره على تاريخ الوعي بالذات، ثم أتابع(٨) تطورات النموذج الثقافي للذات والهوية كما تبلور في العقود الأخيرة في العوالم الافتراضية، وأختم(٩) بتحديد بعض الملامح للتكوين النفسي للفرد المنغمس في نموذج تحقيق الذات.

١)تعود معظم الاحساسات الجديدة المؤرقة التي تعاني منها الذات الحديثة إلى تلك التحولات التاريخية المسماة بالحداثة، وهناك ثلاثة مفاهيم أساسية تنتظم مجمل الأطروحة الحداثية؛ وهي مفهوم العقلانية، ومفهوم الفردانية، ومفهوم الحرية. وسيكون التركيز على مفهوم: الفردانية والذاتية، لبحث جذوره وعلاقته بالتصور الحديث للذات والهوية. 

سؤال الأنا في المنظور الحداثي يتأسس على الاعتقاد بتفرُّد الذات، واحتوائها على جوهر داخلي، والإيمان بتضمُّن الأنا لحياة باطنية خاصة.

٢)أسهم حقل النظرية السياسية والقانونية في ترسيخ النزعة الذاتية والمنظور الفرداني، ويظهر ذلك في أسس النظرية لأطروحة الحق الطبيعي ونظريات العقد الاجتماعي، فنظريات العَقْد الحداثية تبني أيديولوجيتها لتأسيس مبادئ الاجتماع والقانون والسياسة من منظور الفرد المكتفي بذاته والمستقل عن كل رابطة اجتماعية أو سياسية، بافتراض صورة خيالية عن وجود بشري سابق لتأسيس المجتمع والدولة. 

٣)انشغلت فلسفات التنوير في القرن السابع عشر بدراسة الانفعال والعواطف، وانحازت لرؤية تفصل بين العقل والعاطفة، وتنتصر للعقل وإرادته على الدوافع الحسية، وتعتبر الانفعالات على أنها عوائق وظواهر اضطرابية، وعلى هذا الأساس صاغت فلسفات هذه المرحلة مبادئ علم النفس والأخلاق. 

٤)استمرت هذه الفكرة منذ أواخر القرن السادس عشر حتى أواخر القرن الثامن عشر، ثم حدث التحول واستبدلت النظرة الواحدية بفلسفة التنوع، وراج في عقود القرن التاسع عشر معاداة تعميم المقاييس، والنفور من البساطة، والاهتمام بالخصائص الفردية والقومية العنصرية. 

وقد تبلور هذا التحول في مساحة واسعة من الأفكار أطلق عليها الرومانتيكية وهو في أساسه مذهب فني وأدبي يولي عناية فائقة بالتفرد الذاتي، وعلو الخيال. وقدسية الشعور، وتتميز الذاتية الرومانتيكية بكونها تنظر إلى الأنا كشيء مستقل عن المجتمع والثقافة والقيم. 

٥)برز في هذا السياق ظاهرتان جديدتان في تناول الذات والخبرة الباطنية في الثقافة المعاصرة: الأولى تتجاوز النموذج الرومانتيكي الكلاسيكي في صياغة الذات. وتكرس خطابها لبيان تفككك الخبرة الذاتية نفسها وتذررها وانحلالها، إلى حد الشك في الأفكار الذاتية عن الهوية، والظاهرة الثانية نجدها في التناول الجديد لمفهوم الوحدة والعزلة، والأشكال الجديدة لأنماط الإقامة في الزمن. 

٦)يعزو جورج زيمل تصاعد النزوع الفرداني والميول الذاتوية في الثقافة المدينية الحديثة إلى تضخم العقلنة وهيمنة الروح الموضوعية على حساب الروح الذاتية؛ فالفرد يختزل إلى كمية ضئيلة كحبة غبار من ضمن تنظيم هائل للأشياء والقوى التي تأخذ من الفرد كل ما هو مرتبط بالتقدم، والروحانية، والقيمة؛ فقط كي تحولها من شكل ذاتي إلى وجود موضوعي خالص.

٧)يرتبط الاهتمام الكبير في القرون الثلاثة الأخيرة بالمذكرات لمؤثرات ودوافع ثقافية ودينية عدة، فقد اعتنى بعض المسيحيين الأوائل بمحاسبة الذات وتأملها، وكشف باطنها؛ ليكون متوافقًا مع المعايير الدينية، وذلك بتدوين أفعال الذات وخطرات النفس. 

تعد الرواية الشكل الأدبي الذي يعكس التوجه الفرداني الحديث، فانشغلت منذ بدايتها بالهوية الشخصية، والوعي الذاتي بالزمن وتشكلاته، وظهرت ضمن المشهد الثقافي العام الذي تتكاثر فيه التصورات الفردانية في حقول المعرفة، وفي الفكر السياسي والأخلاقي.

في حين أن تركيز القصة القديمة والكلاسيكية كان يستهدف ما هو شامل وكلي، تأسست الرواية الحديثة على رؤية للعالم محورها الأفراد، والعلاقات الاجتماعية بينهم، فالانشغال الرئيس للرواية الحديثة يتمركز حول فحص الطبيعة الإنسانية في عالم سيصبح فيه الإله غائبًا، أو غير موجود، أو مشكوك فيه. 

٨)تطورات التقنية المتسارعة زادت من تعقيد أزمة الهوية الذاتية وارتباكها، بسبب بروز المنصات الجديدة التي تسهل ابتكار الهويات المستقلة، وهذه الإمكانيات الجديدة تعد تحولاً جذريًا في سياق ثقافة تحقيق الذات، فحين لا يتمكن الفرد من اكتشاف هويته أو ذاته الأصيلة في العالم الواقعي تتيح له الفضاءات الافتراضية تحقيق طموحاته الفردانية. 

٩)إن علاقة الفرد بالواقع الخارجي وبالآخرين في هذا النموذج الثقافي؛ تتسم بالرغبة في إعادة إنتاج الواقع بقرار ذاتي، وخلق البيئة المحيطة وفقًا لاحتياج الفرد الجامحة للنشاط والرفاهية، وإذا لم يكن ذلك ممكنًا يتجه الفرد إلى تعويض هذا الوقع بإنتاج واقع آخر بفضل الإمكانيات التقنية والتواصلية والافتراضية. 


الفصل الثالث- مآزق الأصالة: 

أبدأ أولاً بإيضاح(١) توهمات الأنا النقية من المجتمع، ثم أبيّن(٢) آثار مركزة حرية الاختيار الذاتي على القيمة والهوية، ومن ثمّ على المعنى، وبعد ذلك أشرح(٣) عمق ارتباط الذات بالمجتمع، في التكوين والاستدامة الهوياتية، من خلال مفهوم السردية، وطبيعة تمثّل اللغة، ثم أنتقل إلى بيان سياق ظهور(٤) الحاجة إلى الاعتراف، الذي أصبح يشكل أزمة رئيسية في الواقع المعاصر. وأختم بالإشارة إلى أثر مهم من آثار نزعة الفردنة وهو(٥) فردنة الأزمات وتذويت المشاكل العمومية، بتحويلها إلى اضطرابات شخصية، ومن ذلك أزمة المعنى نفسها وآثارها. 

١)هذه النزعة نحو الاستقلال الذاتي والافتراض المتطرّف عن ذات نقيّة، من الآخرين؛ عرض من أعراض عملية تاريخية طويلة تسمى بعملية التحضُّر، ففي مرحلة ما من مراحلها يتشكل نوع من الإلزام المجتمعي للفرد بالتحفظ، والتنازل عن بعض الغرائز، أو كبتها، فيتكون داخل الفرد شعور خاص أن في داخله شيئًا يخصه وحده دون أي علاقك مع الناس الآخرين، والذي سيخرج لاحقًا إلى الاخرين من خلال علاقته مع الخارج.

٢)اعتقاد كون الذات منتجًا شخصيًا مستقلاً تمامًا ورفض التأثيرات الخارجية بدعاوى الوصاية؛ ينعكس سلبًا على قيمة الحرية نفسها، ليس لأن الأنا الصافية لا وجود لها خارج الذهن فحسب؛ بل لأن الأنا في هذه الحالة ستكون مجردة من كل قصد أو غرض محدد، ولهذا فإن أيديولوجية التحديد الذاتي لمعنى الحياة تؤدي لنوع من العدمية النيتشوية. 

٣)يستمد مفهوم الذات الفردانية قوته التأثيرية من نفوذ النموذج الثقافي والاجتماعي لليبرالية، وقد أثار هذا المفهوم ولواحقه النظرية المتصلة بنمو الشعور بالذات وطبيعة تكوُّن الهوية الشخصية جدالات كثيرة في القرن العشرين، والذي يعنينا هو استخلاص أثر النقاشات في تعميق فهم أزمة المعنى، وتشوش هوية الذات الحداثية: 

أولاً: الذات لا يمكن لها أن توجد وجودًا حقيقيًا إلا ضمن ذوات أخرى.

ثانيًا:يرتبط تكوُّن الهوية الذاتية باللغة ارتباطًا جوهريًا. 

٤)إن معاناة الفرد من فقدان الاعتراف به؛ تدفعه إلى التعويض بطرق شتى، إما بواسطة الوله بالمشاهير، أو الانتماء المتعصب لفريق كرة، أو لنجم، أو لوطن، أو حزب، أو عن طريق الهروب من خلال الانطواء المرضي على الذات وترك التواصل مع الآخرين، لأجل استبعاد كل مخاطرة ممكنة بالنبذ أو عدم الاعتراف. 

٥)انصب اهتمام كثير من الأطروحات النفسية والنقدية والعلاجية على فردنة المشكلات والأزمات وأنماط العلاج ونفسنتها، وعلى رأس المشاكل أزمة الهوية والمعنى وآثارها، وهذا الميل المعاصر يجعل من المشكلات الناتجة عن التحولات السياسية والاجتماعية مجرد فشل شخصي، وحالات نفسية. 


الفصل الرابع- الطريق نحو الجسد:

يقول أنني خصصت هذا الفصل لتناول هذه النتائج من حيث علاقتها بأزمة المعنى؛

فبدأ بعرض عام للنسبوية المعرفية والأخلاقية، ثم انتقل بعد ذلك إلى العدمية وتفشيها في القرن العشرين وسبب اقبال الادب والرواية وفي الفنون بشكل عام على المنتج العدمي وفي الجزئية الأخيرة شرحَ تطورات الموقف من الجسد، لان الجسد هو اللحظة المفصلية بين ثبات اليقين والمعنى وعدمهم.

لقد بدأت الشكوك في العالم والحقيقة مبكرًا في تاريخ الافكار، إذ أن فلسفة ديكارت على الأقل ولدت تيار جديد " التيار الشكوكي" إذ أنهم ينطلقون من من طريقين رئيسين، التشكيك في موضوعية العالم ووجودهم وواقع الحياة البشرية ، وانعدام الثقة بالحواس والعقل، وهذه هزيمة مؤلمة وواضحة.

إذ أن الفلاسفة الحديثين أصبح شغلهم الشاغل هو هو التشكك تشريح الفلسفة القديمة، عكس الذي كان يفعله الفلاسفة القدماء، هو تصور طبيعة العالم، وكشف انماط الوعي بالذوات الاخرى، والتمسك بالحقيقة الخالدة.

تقول ترى حنة أرنت أن أغلب الفلسفة الحديثة هي بالفعل نظرية معرفة وعلم نفس.

والنموذج السردي العدمي في الادب والرواية والمسرح والسينما، اي ان الحياة وليس لها معنى والولادة خطيئة، وكل ما مضى الزمن، اصبح الالم فظيع، والالحاد نتيجة حتمية لبشاعة العالم، والانتحار عمل بطولي، اي كل ما يقوي صلة الذات بالعالم، هذا التيار بمضي عكس ذلك.

اي ان العدمية ليس لها نتائج عملية واضحة تسهم على الاقل في بناء هذا العالم، حتى في اوربا بشكل خاص يكرمون الكتاب والادباء العدميين الذي يسهمون في تغذية هذا التيار.

كما أن هنالك بعض اتباع هذا التيار يسهمون بشكل كبير إلى عزل نفسه وعن مخاوف الموت، من خلال رفضه تشكيل علاقات عميقة وراسخة مع الآخرين، فعندما لا يتشكل اي نوت من الارتباط لا يعاني الفرد من الفقد. 


الفصل الخامس- اختلال المقدس" والأديان" البديلة:

يتأسس هذا الفصل على مسلّمة مفادها أن الإنسان لا يمكنه أن يعيش خلوًا من أي تديّن أو تألّه، أو رؤية كليّة تجعل لحياته معنى. 

إن الإنسان كائن ميتافيزيقي في جوهر، كما أنه لديه ميل راسخ إلى أن يجعل لحياته مبدأ أو مبادئ تتسم بالإطلاق والشمول.

وأوضح برهان على ذلك يظهر هو أن تنظر للأديان التي في العالم منذ ظهورها إلى يومنا هذا، هي كلها أديان اخترعها البشر في تاريخهم المديد، فهي مليئة بالمبادئ والقناعات التي كل ما يخطر في البال، قاموا بجعلها هكذا هم البشر. 

كما أن معتقدات الحداثة الكبرى، ظلّت أسيرة للتراكيب الأساسية للدين دون دراية منها، في الوقت الذي كانت تعتقد أنها تجاوزت تلك التراكيب. 

وأبرز تلك الأديان السياسية التي أنتجتها الحداثة، هي الشيوعية والنازية مثلاً، بل إنها تعرضت لهزّة عنيفة لما جرّته من حروب وصراعات ودمار وسَمت القرن العشرين بدموية لا مثيل لها، كما أنها ساهمت في انتشار العداء العام للمطلقات الجماعية والمشاريع الغائبة الكبرى، والميول التشكيكية في معظم المعايير التقنية، وعلى رأس ذلك الدين والتديّن التقليدي.

 في عام ١٧٨٩م، بدأت ظاهرة اختراع " الأديان البديلة" في وقت مبكر من الحقبة الحداثية، من خلال ذلك اُبتكر عبادات ومقدسات تلبي حاجة تلك المرحلة الجديدة. 

عن الطابع الديني للثورة الفرنسية أشار المؤرخ الفرنسي عن تلك الحقبة وقال أنها" صارت هي ذاتها دينًا جديدًا من نوع ما، دينًا ناقصًا والحق يقال، بدون إله، وبدون عباده، وبدون حياة أخرى، لكنه مع ذلك اجتاح الأرض بجنوده ودعاته وشهدائه." 

إن مفهوم الفلسفة وموقعها التاريخي دورها ملتبسًا ومثارًا للجدل، كما أن الصورة العامة للفلسفة في التاريخ الحديث تظهر على ثلاثة عصور كبرى: الأول: " عصر تأسيس الأنساق الكبرى التي حاولت منافسة الأديان، وتركيب منظور فلسفي كلي للتجربة والمعرفة البشرية، وفي هذا العصر حاول كبار الفلاسفة- منذ ديكارت حتى ماركس- منافسة الدين، أو تحييده أو منعه من ولوج مجالات النظر والتعقل، أما اليوم فلا يطمح أي فيلسوف لإنتاج عمل ممتثل للأنساق اللاهوتية الكبرى، لاستحالة ذلك في ظل التحولات الفكرية، والتطورات العلمية في حقول المعرفة المعاصرة كافة.  


الثاني: " عصر التفكيك، ويبدا منذ نهاية القرن التاسع عشر ميلادي، وفيه أُعلن{ موت الإله } ونهاية الفلسفة، بوصفها مشروعًا ميتافيزيقيًا، وذلك لتخلّي الفلسفة عن أن تكون دينًا معلمنًا، الأمر الذي أدى إلى نهايتها، بعد اصطبغت بالصبغة الفردية، حيث، أصبحت الفلسفة رؤية شخصية للعالم. ولم يعد يناط بها ذلك الدور التاريخي نحو البشرية العامة. 

الثالث: " العصر الحالي، الذي يبدأ من الستينيات فما بعدها، وفيه تعاني الفلسفة لسببين: الأول يعود إلى صعود نجم العلوم الإنسانية، وهو الصعود الذي أدى إلى شيوع فكرة نهاية الفلسفة، ووجوب مغادرتها للمشهد الثقافي لصالح الإنسانيات الحديثة. والسبب الثاني يتمثّل في كون ماهية الفلسفة ذاتها أضحت أمرًا إشكاليًا. 

إذ أن الفلسفة المعاصرة لم يبقى لها مهمة جديدة على المستوى النظري سوى قراءة الواقع. 

{ أعظم إسهامات علم النفس الحديث منذ فرويد، هي مساعدة الفرد على اكتشاف وحدة جديدة بداخله، وتلبية حاجة الإنسان الحديث لإيجاد معناه داخل نفسه.}


الفصل السادس- المشاعر والرومنسيات المعاصرة: 

هذا الفصل يستكمل أطروحة الفصل السابق، وهو يركز على مقدس آخر تضخمت فيه قيمته الوجودية، وآثاره الروحية في المخيلة الحداثية المعاصرة، هو الحب والعلاقات الحميميّة، ولتجلية هذا الموضوع يطرح أولاً (١) توضيحات نظرية عديدة حول موقع المشاعر والأحاسيس والوجدانيات من اهتمامات الذات المعاصرة، ومسببات البحث عن الأحاسيس الانفعالية، ثم أفحص إحدى تجليات هذا البحث في المجال الديني، فيتناول(٢) الدين كتجربة شعورية وعاطفية. وينتقل بعد ذلك إلى بيان(٣) موقع الحب في النموذج الثقافي المهيمن، وعلاقته بأزمة المعنى، وألمح إلى ظروف نشأة(٤) زواج الحب، والبنية الاجتماعية والثقافية التي تكوّنت ضمنها شروط العلاقات العاطفية الجديدة، وتوابعها كعواطف الأمومة والأبوة. ثم يشير أخيرًا إلى(٥) أزمات علاقات الحبّ ومصادرها وآثارها على الذات والهوية والمعنى. 

١)إن الثقافة المهيمنة تولد الكثافة، وتحث على الأفراد تحصيل الكثافة الشعورية، فقد تحدّد المعنى الوجودي للفرد الآن في احتدام كل الوظائف الحيوية لديه، 

إن الأفلام والمسلسلات، هي موقع رئيسي لإنتاج المشاعر واستهلاكها، حتى أصبح من المكرور الترويج لفيلم أو مسلسل بعبارة" مفعم بالمشاعر، ولذا تحرص مراكز الإنتاج السينمائي على التكثيف العاطفي في السيناريوهات.

ويعدّ جان جاك روسو، أو منظّر للحميمية، بنقده الحاد للمجتمع، إذ أنه يصفهما{ نمطين ذاتيين من أنماط الوجود}

تقول حنة آرنت { في ثورة القلب هذه؛ ولد الفرد الحديث وصراعاته الدائمة، وعدم قدرته على العيش داخل المجتمع مثل العيش خارجه، ومزاجه المتقلب، والذاتية الجذرية لحياته العاطفية.} 

وقد تطورت المعتقدات الليبرالية داخل الحركة الاجتماعية والثقافية للمجتمعات الأوربية والأمريكية في القرن العشرين، للسعي إلى تحرير وإطلاق المشاعر تتم في عملية على ثلاث مراحل: 

الأولى: على الصعيد الاجتماعي، وذلك بالتحرر من الإكرهات الاجتماعية المفروضة على المشاعر.

الثانية: لا يكفي محو الإكراهات الاجتماعية والضغوط الخارجية، بل لا بد من العمل على الذات والجسد، عبر عدة أنشطة ومهارات ومعارف يرجع معظمها إلى تقنيات تطوير الشخصية.

الثالثة: بعض أنواع العلاجات النفسية، فمن مسلّمات ثقافة المشاعر المعاصرة أن العذابات النفسية، لا تأتي من الأحاسيس التي نعبّر عنها.

بل تنبع من الجهود التي نبذلها لكبتها، وأن الكبت لا يلغي المشاعر، بل يحولها إلى اللاوعي، واللاوعي هو ببساطة: مجموعة من المشاعر التي نمتنع عن التعبير عنها فنعجز فيما بعد عن الإحساس بها. 

وتقوم العديد من المقترحات العلاجية على تحرير الطاقة الشعورية من هذا الكبت، واستعادة الإحساس الأصلي للمشاعر.

٢)يقول أولي ريس وليندا وودهد: الناس قد يستخدمون الدين مصدرًا للترفيه، والإثارة الإنفعالية، وعلاج الذات، وهم لا يخلطون العوالم أو السحرية، في الكتب والأفلام مع الواقع، ولا يشعرون بالتزام أخلاقي تجاهها، مع أنهم لا يعتقدون بإشارة هذه الرموز، إلا أنهم يفهمون قيمة هذه الانفعالات التي تثيرها، فهي تشير انفعالات حقيقية، بطريقة تخفق البدائل غير الدينية في تحقيقها."

٣)بعد الإيضاحات العامة للمكانة الفريدة التي تتبؤها المشاعر والعواطف في حياة الفرد اليومية وفي أنماط التدين، ننتقل الان إلى الحب، بوصفه قيمة أساسية للعلاقات الحميمية، ومنبعًا مركزيًا للمعنى في حياة الإنسان.

يتأثر تكوين الذات وتطور الوعي بها داخل إطار العلاقة بالآخرين كما سبق، وأول هذه العلاقات هي العلاقة بالوالدين، التي تتسم في بدايتها بالقرب والاتصال الشديد، ثم مع الوقت يتخلل العلاقة فترات انقطاع أو انفصال، أو عزلة، قسرية أو طوعية. 

" كل شيء يمكن اختزاله إلى عنصر بسيط يمكن للفرد أن يعتمد عليه في وجوده: القدرة على الحب. هذا العنصر يمكن أن ينمو داخل الروح ليصبح العامل الأسمى الذي يحدد معنى حياة الفرد."

والمراد بالحب ليس مجرد الارتباط العاطفي المعهود، بل تلك العلاقة الروحانية المقدسة، فالحب يفرض نفسه بوصفه بعدًا من أبعاد المطلق والمقدس في صميم وجودنا بالذات، والدليل على ذلك أننا مستعدون لكل شيء من أجل من نحب. 

٤)إلى حدود عام ١٨٠٠م كانت الصداقة تعتبر عادةً أقرب صلة شخصية يمكن أن تكون لدى أي شخص، ولكن منذ ذلك الحين أصبح الزواج النموذج الأسمى للصلة الروحية الأعمق.

ولأهمية هذا التحول رسمت بعض الأدبيات المعاصرة في التاريخ الاجتماعي سردية مبالغًا فيها عن تاريخ العلاقات الزوجية الاوربية الفريدة، بتشويه تاريخ العلاقات التقليدية الغربية، وتحريف النظام الأسري وواقعه في المجتمعات الشرقية، لكي يبدو الحب الرومانسي بين الزوجين كأنما هو اختراع أوروبي حديث.

وإجمالاً فقد تأثرت العلاقات المعاصرة بين الجنسين بثورتين مهمتين في القرن العشرين: الأولى ثورة الفردانية في أنماط المعيشة وقواعد السلوك، وتغيرات الحدود الأخلاقية القانونية. والأخرى ثورة النماذج الاقتصادية الرأسمالية لتشكيل الذات وصوغ المشاعر.

وفي ضمن ذلك نشأ نموذج جديد من العلاقات أطلق عليه عالم الاجتماع أنتوني غيدنز " العلاقات الخالصة" أو النقيّة، وهو نموذج يفترض نشوء تعاقد مؤسس لأغراض ذاتية، ويقوم على علاقة حرة بين فردين، يتمتعان بحقوق متساوية، لتحقيق مقاصد عاطفية وفردية، ويمكن الدخول فيه والخروج منه بإرادة حرة. وقُدّم هذا النموذج الجديد بوصفه انتصارًا للحبّ، والحرية والاستقلالية، وهزيمةً للنظام" الأبوي" ومؤسسة الأسرة القديمة.

وهذا النموذج يمثل الصياغة النظرية الكاملة لزواج الحب، وهو يتأسس على مفاهيم الحرية، والمساواة، والفردانية، والذي يعنينا هنا المضمون الفرداني، وهو مضمون مركزي في بنية هذا النموذج الجديد. 

فقد لحظ بعض الباحثين بعد دراسة عينة عن أنفسهم في وصف زيجاتهم وعلاقاتهم العاطفية، أنها تدور عادةً حول شخصين فقط، فلا وجود للوالدين ولا الأقارب والأصدقاء، الأنا والآخر فحسب.

٥)مع أن ارتباط الحب والغرام بالتعاسة والألم قديم قدم الإنسان نفسه، إلا أن الألم والتعاسة المعاصرين الناتجين عن الحب يختلفان في المحتوى واللون والشكل، وفي هذه الفقرة سأفحص سياق وظروف خيبات الأمل ومسبباتها الرئيسية في العلاقات الغرامية، مع التركيز على المسببات المتصلة بارتباكات الهوية الذاتية، وأنماط إنتاج المعنى بواسطتها. 

أولاً؛ جراح الذات وآلامها: مثّل نموذج العلاقة النقية، نقلة نوعية في التاريخ الاجتماعي والأوربي، حيث لم يخلُ ذلك التاريخ من نوع الإجحاف ضد الشراكة الزوجية، بل اعتبرت الزوجة في حقب ومواطن معينة، بمثابة الأملاك المنقولة.

إلا أن النموذج الجديد لم يخلُ أيضًا من العيوب والثغرات، فالتحرر أنتج الشعور بعدم الأمان والانكشاف النفسي، وأثر في تقلّب أنماط العلاقات العاطفية وتذبذبها، واتسامها بالهشاشة المفرطة، وتكرر الانفصالات السريعة والمتتالية، بسبب ضعف الأسس الأخلاقية، والقيود الاجتماعية.

التي تنظم سلوك الفرد داخل الجماعة، والاستناد الكثيف وشبه الحصري، على بنية الأفراد النفسية والذاتية التي هي بطبيعة تكوينها، هشّة، وسائلة، ومتقلّبة.

ثانيًا؛ مثارات التعاسة في بنية العلاقة العاطفية: 

تنبع الأزمات في العلاقات العاطفية أولاً من صعوبة بناء الذات المنفردة والمستقلة، ومن محاولات هذه الذات اكتشاف عواطفها الخاصة ثانيًا، التي تتأبى على التحديد والموضعة أحيانًا، ثم اختيار السمات التي يفضّل توفرها في الشريك، وهي السمات التي لا تخلو من تاثير النوازع الغامضة والظاهرة، والخيالات الذاتية، والصور التي يزخر بها الفضاء العام المتجدد والإعلامي المجنسن ثالثًا. ورابعًا من مكابدة الذات تثبيت هذه الميول العاطفية السائلة. وخامسًا من تأكيد الشعور بالانسجام تجاه شريك معين، وهو الشريك المبهر الذي نجح في تجاوز تلك السمات والمعايير الدقيقة، واختياره من بين عشرات الشخصيات المحتملة. وسادسًا من السعي إلى إنشاء علاقة من موقع حر ومستقل، وتخطي مخاوف المستقبل الغامض، للالتزام بعلاقة طويلة المدى، ليس لها مصدر استدامة سوى رغبة الطرفين، ومصالحها النفعية؛ بالاستناد إلى عواطف جيّاشة من غير ذوبان، وانسجام نفسي تام من غير تبعيّة، ورغبات جنسية متسقة ومشبوبة ومستدامة. 

ثالثًا؛ حتمية الانطفاء: إن المسار الذي تعبره العلاقات العاطفية ينتهي غالبًا إلى انطفاء تدريجي للهيب والحب، وانتشار صقيع الوحدة في أرجاء الذات، لأن العلاقة مهما بلغت ستواجه لا محالة يومًا ما مشكلة استنزاف الرغبة، فالغرام الدافق لا يستمر في أحسن الأحوال سوى سنيات قليلة، بل تشير دراسة حديثة إلى أن الملل يتسرب إلى العلاقات الحميمية بعد ثمانية عشر شهرًا أو سنتين على أكثر تقدير.

ولذلك فالانشغال الأهم عند الأزواج اليوم يتمحور في كيفية تحويل عشق البدايات الملتهب إلى علاقة غرامية دائمة، وصداقة حميمية مستمرة. 


الفصل السابع- الفن والمعنى المؤجل: 

ينشغل هذا الفصل بشرح سياق ودلالات تحوّل الفن إلى قيمة مستقلة، ومن ثم استحالته ليكون هدفًا ومنتجًا رئيسًا لمعنى الحياة، وشكلاً من أشكال التديّن، معوضًا ضمور الاعتقادات التقليدية، وتغوّل العقلنة، وتأثيرات الرأسمالية الصناعية. سأبدأ أولاً بعرض(١) علاقة الفنون التاريخية بالدين، وطبيعة التوترات الواقعة بين دنيوية الفن وأخروية الدين، ثم انتقل إلى تحليل(٢) جوهر الانفعال الفني، ومعناه، وأعرض بعد ذلك(٣) سياق استقلالية الفن وتحوّله إلى غاية ومنبع رئيسي للمعنى، مبينًا(٤) أهم الدوافع الحداثية المؤثرة في النظرة التبجيلية إلى الفن، وأخيرًا(٥) أوضح دور الفن في تأجيل سؤال المعنى، أو نسيانه. 

١)حظيت الفنون منذ قديم الزمان بأهمية كبيرة في الثقافات البشرية، ومنذ الحقبة اليونانية حتى القرن الثامن عشر، لم تطرح الفنون إلا باعتبارها وسيلة أو طريقة لتأكيد القيم العقائدية والأخلاقية. 

إذ أن بعض الفلاسفة رأى أن الفنون وسيلة إلى تحصيل المعاني الأخلاقية، وتهذيب الطبع. 

ثم جاءت المسيحية فاستثمرت الأطر الأخلاقية الفلسفية القديمة، ورأت أن الفنون- كالموسيقى- 

يمكن استعمالها كطريقة فعّالة لإيقاظ الشعور الديني، واتخذت الكنائس الصور الفنية والرسومات والتماثيل وسائل دعوية وتعليمية. تستهدف عموم الناس.

٢)وهكذا تتشابك العلاقة بين الفن والدين بطرق مختلفة، فالدين يتعلق بفعل الإنسان وكينونته في علاقته مع اللامرئي، بينما الفن يتعلق بصنع المرئي ونشاطه المنظم، ولكن تبعًا للامرئي. 

ومن هذا المنظور يتداخل الفن والدين في كونهما تكريسًا للانتباه لما هو مستتر ويمكن أن يظهر. 

ويرى بعض فلاسفة اليونان أن علة الانفعال الغامض عند سماع الألحان أو ملاحظة الصور إنما تتولّد في النفس لأن هذه الفنون كالنماذج لعوالم متعالية كاملة، يسمونها أحيانًا النفس الكلية. 

٣)أضحى الفن في الحداثة ينظر إليه بوصفه تعبيرًا عن الأصالة، وإظهارًا للطبيعة الداخلية للذات، وهذا التحوّل أفضى مع أسباب أخرى، إلى نشوء مظاهر تقديس الفن.

وقد أصبح تعظيم الفنان بوصفه خالقًا لعالم صغير تعبيرًا مألوفًا في القرنين الأخرين، ويستخدم لوصف الإنتاج الفني بأنواعه، ووصف الفنان بأنه إله آخر، أو إله فانٍ، فالفنان لا يحاكي الطبيعة، بقدر ما يحاكي خالق الطبيعة، وقد صرّح بذلك بعض الرومانتيكيين كيوهان هردر(ت١٨٠٣م) الذي قال: لقد أصبح الفنان إلهًا خالقًا.

٤)عبّر العديد من الفنانين والأدباء والباحثين عن مبررات أو دوافع الفكر الحداثي في موقفه من الفن، وأشير هنا إلى بعضها: 

أولاً: باعتبار أن الفن ديانة بذاتها، فهو المهمة السامية والنشاط الميتافيزيقي الأعلى للحياة، وأنه وحده قادر على إنقاذنا ومن ثمّ تكتسب الأعمال الفنية قدسية ذات طابع ديني، ويصبح الفن طائفة مقدسة، لها أداؤها الطقسي.  

ثانيًا: يضفي الفن والتجربة الجمالية، شيئًا من المنطق والنظام على فوضى الذات والعالم، أي أنه يمنح الوجود نوعًا من المعنى، وينظر إليه كوسيلة لاستعادة الوحدة المفقودة. 

ثالثًا: تنبع ضرورة الفن في رأي العديد من المنظّرين من كونه يعوّض الفرد عن قسوة الكبت العقلاني والجفاف البيروقراطي للفضاء العمومي، وهيمنة العقل الأداتي والنفعي المتفشي في الحياة الحديثة.

رابعًا: إن تكاثر تعاسات الحياة وآلامها تجعلان من الفن نافذة رحبة للخروج المؤقت من العالم، بل خيارًا ضروريًا لمن لا يملك مسكنات ثقافية أو مهدئات إيمانية يحتمي بها من شرور الوجود.

خامسًا: تحظى الفنون أيضًا بميزة إضافية بانسجامها مع التوجه الروحاني المعلمن، الذي يسعى إلى استنباط روحانيات بلا دين، وهو توجّه متصاعد ينظر إلى الروحانية بوصفها تجربة وجود إلهي، شخصية عميقة وحدسية، وغالبًا ما تكون محمّلة بشحنات انفعالية. 

وإذا لم يمكن الحصول عليها على هذه التجربة في إطار الأديان المعروفة، فإنه يمكن العثور عليها تقريبًا في الفن والموسيقى. 


الفصل الثامن- المعنى والزمان: 

أخصّص هذا الفصل لتناول معنى الزمن وتحولات الوعي الحداثي به، وأبدأ بالحديث عن(١) تحولات الوعي بالزمن في التاريخ المعاصر، ومفهوم الحاضرية الذي يمحور الوجود الفردي في اللحظة الآنية، ويقطع صلاته بالماضي؛ الروحية منها والمعنوية أو الرمزية، ثم أشير إلى(٢) محاولات الروحانيات المعاصرة وتقنيات الوعي المصاحبة لها للهروب من صيرورة الزمن، وعلاقة ذلك بسؤال المعنى. 

بعد ذلك أستطرد في تحليل مسببات الاضطراب في الوعي بحركة الزمن ودلالتها التي لم تنشأ عن تأثير المفاهيم الثقافية المجردة فحسب، بل أسهمت في ذلك عوامل متنوعة(٣) كتحولات الحيز المكاني وتزايد الحركة الزمانية، المرتبطة بتطورات تقنيات الاتصال والمواصلات، وتغيرات أشكال العلاقات، وحركة المال والأعمال، وغيرها. وأخيرًا أوضح(٤) أهمية البناء السردي للمعنى. 

١) عناصر الزمن الثلاثة- الماضي والحاضر والمستقبل- مرّت بثلاثة أطوار رئيسية:

الأول: طور الاهتمام بالماضي أو الماضوية، حيث كان النظر المسيطر على التاريخ يصدر عن الاعتقاد بأن النموذج المحتذى والعصر الذهبي قد وقع في الماضي، وأن الحياة الطيبة والفاضلة تعتمد على مدى الاقتداء بنماذج الماضي المجيد. 

الطور الثاني: طور الاهتمام بالمستقبل، وقد ابتدأ هذا الطور مع بدايات الحداثة، ويتأسس على تقليل قيمة الماضي والتطلّع إلى مستقبل مختلف على نحو جذري. 

الطور الثالث: من أطوار الوعي الزماني، الذي سمي بالحاضرية، وهو تصوّر برز في العقود الأخيرة من القرن العشرين. 

٢)لاتكاد تخلو معظم خطابات السعادة وأدبيات التحفيز وتقنيات الروحانيات العلمانية والدينية، وكتب علم النفس الشعبي، والكتب الأكثر مبيعًا في تنمية الذات وإدارة الحياة، من التبشير بمكانة اللحظة الراهنة والحثّ المتكرر على الاستمتاع بها، وتعلّم فن الامبالاة، والحذر من الارتباط والتعلّق، وعدم اجترار الماضي، وتحاشي الأمل، وحبّ الذات والاكتفاء بها، والاستغراق في التأمل، والمعنى المشترك بين هذه الأفكار هو الإمعان في تحجيم الأبعاد الزمانية للهوية الشخصية، والتغلّب على مقتضيات البناء السردي للذات. 

٣)لقد فاقمت التحولات الحديثة على صعيد الوعي بالزمان والمكان من أزمنة المعنى، وترصد الدراسات بدايات هذا التحول مع تطوّر الحداثة المدينية في القرن التاسع عشر، ومن صعب تقديم تصوّر منظم وشامل لهذه التطورات وآثارها في تمزيق الوعي والزماني، ولكني أكتفي بالإشارة إلى جملة الملحوظات الدالّة.

أولاً:  أفضى تغيّر نمط العلاقات الجديدة التي تنشأ في المدن الضخمة، وتتسم بالتعدد والتنوع والسطحية إلى تقويم جديد للفورية، وخلقت إحساسًا بروعة لا محدودة باللحظة الحالية، فاختصار وندرة اللقاءات- التي أصبحت سائدة عند كل فرد مقارنة بالتفاعلات بطيئة الإيقاع التي تميّز حياة القرى الصغيرة- جعلت من الضروري إحداث الأثر المطلوب في أقصر وقت ممكن، وخلق الانطباع والمغزى الذي يسعى إليه المرء في أقصر مدة ممكنة، وانعكس ذلك على طبيعة الإحساس بالزمن المفقود. 

ثانيًا: وقد تناولت بعض الأبحاث الحديثة آثار الحركة المكانية، وتغيرات أنظمة التنقل، فوسائل المواصلات قوّضت الافتراض بثبات المرئيات، وقد لحظَ المؤرخ السويسري المعروف بوركهات(ت١٨٩٧م) - في وقت مبكر نسبيًا- هذه  السمة الجديدة في العالم الحداثي التي خلخلت نظام الإدراك المكاني في ذهن الفرد، وذلك عند مشاهدته لحركة الأشياء من خلال النظر من نافذة القطار أثناء مسيره، حيث تتلاشى الأشياء وتذهب بعيدًا بعد إلقاء النظر عليها لوهلة.

ثالثًا: يرتبط هذا الحراك المعماري والتخطيطي للمدن المعاصرة بطبيعة البنية الاقتصادية الرأسمالية، التي تقوم على التدمير الخلاّق.

رابعًا: والأمر نفسه ينطبق علو سوق العمل والوظائف، حيث يتسم القطاع في العواصم الصناعية في العقود الأخيرة، بفوران حركي وتحولات متتالية؛ إذ يعاني الفرد العامل من مصاعب الاستدامة الوظيفية، لشيوع العمل المؤقت، وكثرة التنقل بين الوظائف والأعمال، وتزايد الخصخصة، وتراجع الوظائف الحكومية المستقرّة. 

خامسًا: وكذلك تتجلى هذه الحركة في نمط إنتاج مواد الإعلام، المرتكز على التقرير العاجل، والخبر السريع العابر، واللقطة المثيرة المؤقتة. 

سادسًا: ثم جاءت الشبكات التواصلية الحديثة في العقد الأخير فأضافت نقلة جديدة في أزمة العلاقة الحداثية بالزمان. 

٤)تكررت الإشارة في ما مضى إلى دور البناء السردي للذات، وأعني بالسرد أو السردية هنا الخطاب المرتّب المتسلسل المتسق بين الأحداث، بحيث تكون ذات مغزى، وتتضمن فهمًا محددًا للعالم. 


الفصل التاسع- من المعنى إلى التعبد: 

في هذا الفصل الأخير أحاول استجماع بعض المرتكزات الأساسية للإجابة عن سؤال معنى الحياة، وآثار هذه الإجابة في ضوء الرؤية القرآنية، إلا أنني قبل ذلك أستفتح بالإشارة إلى(١) عمق الاحتياج إلى التدين، ثم أنتقل إلى بيان(٢) معنى الألم، و(٣) معنى الموت، ليصبح السياق متهيئاً لعرض بعض ملامح(٤) السردية القرآنية لمعنى الحياة، وأولوية(٥) منظور الخلود في التصوير الايماني، وآثاره السلوكية. 

وأختم بالإشارة إلى نقد(٦) علمنة سؤال المعنى، وبيان أن سؤال المعنى في المفهوم المعاصر أضيق بكثير من المضمون الذي ينطوي عليه التدين والإيمان في التصور الإسلامي. 

١)إن الاعتقاد بغائية الوجود، واعتباره النشاط البشري العام هادفًا ليس إثراءً نظريًا مجردًا، أو إضافة معرفية بحتة، بل إن تشوش الموقف الوجودي أو اضطرابه أو انعدامه تهدد البنية النفسية للإنسان، وتعرّض اتزانه العقلي للمخاطر، حتى إن كبار المحللين النفسيين كان يتناول العصاب النفسي بوصفه معاناة كائن بشري لم يكتشف بعد ماذا تعني الحياة له. 

فالثقافة الحداثية بتخلّيها عن إدماج الفرد في نظام عمومي للمعنى، وضمور رؤاها الرمزية الجماعية تجاه الوجود والعالم والحياة والموت، تهدّد في الحقيقة السواء العقلي والنفسي للفرد، وإذا اتفقنا مع إيريك فروم أن الدين في أوسع معانيه، نظام توجيه وموضوع إخلاص. فالنتيجة أنه لا يمكن فقدان الدين بهذا التعريف والمحافظة على السواء. 

٢)نظرًا لأن الألم يرتبط جوهريًا بالمعاني الثقافية والرمزية والدلالات الاجتماعية ويؤثر ذلك كله في وقع الألم نفسه على الجسد، فقد رصدت العديد من الدراسات التحوّل الحديث في الموقف من الألم، وأشار بعضها إلى دور التطوير الطبي في مجال التخدير والمسكنات والمهدئات بشتى أنواعها، وتنافس شركات الأدوية في تطوير فعاليتها، وانخفاض أسعارها؛ وأن ذلك دفع الأفراد إلى البحث عن علاج مباشر وفعال لكل ما يطرأ من آلام، ما أضعف تعامل الإنسان الحديث مع الآلام مهما صغرت، وأفقده كثيرًا من سمات الصبر والصلابة، التي كانت تعدّ فيما سبق، علامة أكيدة على الرجولة أو الانتماء إلى الجماعة.

٣)يبرز الترابط بين الموت والمعنى في موقفين أساسين: 

الأول: الطريقة التي يواجه بها الفرد المعاصر الموت، فقد تحولت مقدمات الموت ونُذُره، كالمرض والفقد، والشيخوخة في المخيّلة الحديثة إلى كومة من الآلام والمعاناة السلبية، ولذلك في المجتمع الحداثي يتباعد قد ما يمكنه عن كل ما يتعلق بالموت أو يذكر به.

الموقف الثاني: الذي يظهر الترابط بين الموت والمعنى: الطريقة التي يتلقى فيها الإنسان موت الحبيب أو القريب، وفي طقوس الجنائز، ومحاولات ربط الفقيد بشيء أبدي، أو على الأقل دائم، وقد تقدّم الجنازات الدينية نوعًا من العزاء؛ لكونها تتضمن لغة تتوافق مع الحاجة ألى لأبديّة، حتى ولو لم يكن الفرد المعزي مقتنعًا بالمضمون الغيبي لألفاظ العزاء ومعانيه، إلا أن إنكار الخلود في الزمن الآخر، واعتقاد الموت الأبدي للذات وللآخر المحبوب؛ يجعل ألم الفقد والفراق مضاعفًا ومدمرًا، وفي أحيان كثيرة يفوق قدرة الفرد على التحمّل، وتظهر دراسة فرنسية أجريت على غير المؤمنين في فرنسا أن أصعب ما في اعتقادهم الإلحادي يكمن في التفكير أنه لا توجد حياة بعد الموت، والأصعب أيضًا عليهم جميعًا هو موت أحبائهم، ولما سأل فرانسوا فوريه(ت١٩٩٧م) أحد كبار المؤرخين الفرنسيين، في أحد البرامج التلفزيونية السؤال الآتي: ماذا تود أن يقول لك الله إذا قابلته؟ فأجاب- وقد كان شديد الإلحاد- وبدون تردد، ادخل بسرعة، إن أقاربك ينتظرونك. 

٤)عند تفحّص تصورنا الإسلامي سنجد أن السردية المؤمنة التي يقدمها الوحي تتأسس أولاً وقبل كل شيء على التحقيق الجازم أن المدار والأساس، والغاية والمنتهى، هو الله{ قُلۡ إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحۡیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ } ، فهو الأول  والآخر، والدائم، والحي الذي لا يموت، والقيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يمكن أن تصح رؤية للعالم ولا معنى للوجود من دون أن يكون الإيمان بالوجود الإلهي، واليقين بكماله المطلق عزوجل، ورعايته التامة، ونفوذ أمره وإرادته؛ وهي ركنها الركين، فهي الركيزة الوجودية الأصيلة الكفيلة بتشييد البنية التحتية المؤسسة لمعرفة صحيحة، وأخلاقيات فاضلة، ونظام متماسك للمعنى. 

٥)إن الطابع الأقوى للموت في الثقافة المعاصرة يتمحور في فقدان الأحبة، لأن علاقات الحب أصبحت تضفي على حياة الفرد المعاصر معنى محوريًا، ومن ثم فإن الألم الناجم عن الموت الأبدي للمحبوب يكون مضاعفًا، حيث لا عزاء، ولا خلود ولا أمل باللقاء، كما سبق. 

والحق أن النفس البشرية لا يمكنها أن تطمئن إلى معنى أو تركن إلى غاية في ظل تهديدات الفقد وحتمية الموت، موتها وموت من نحب، إلا إذا آمنت باجتماع أربعة شروط أساسية:

١)أن يكون الموت هو النهاية

٢)أن تستمر الهوية الشخصية بعد الموت

٣)أن يكون ثمة اختلاف بين هيئتنا التي نحن عليها الآن وبين الشكل الذي سنكون عليه بعد الموت

٤)أن يكون المأمول أن تستمر حياتنا الأخرى بعد الموت في ظل ظروف سعيدة جدًا.

وهذه شروط يعد بها دين الإسلام والمسيحية أيضًا، ولا يمكن للأديان والمذاهب الأرضية منافستها في هذا الشأن.

٦)بعد هذا التطواف المتشعب في سؤال المعنى وآثاره وتداعياته بات من الواضح الارتباط الشديد بين المعنى والدين، بل إن رجال الدين وأتباع الديانات عمومًا في المشهد الغربي يعتنون اعتناءً كبيرًا بمعنى الحياة في دعوتهم وتبشيرهم، ويطرحون ميزات السردية الدينية في الإجابة عن سؤال المعنى، في مقابل قصور الثقافة الحداثية الواضح حيال مسألة المعنى، وهذا الترابط الشائع جعل بعض المفكرين المعاصرين يرى أن جوهر الدين يكمن في الإجابات التي يقدمها حول سؤال المعنى. 

وهذه مغالطة منتشرة، وتعد تعميمًا لأزمة الحداثة الغربية مع التديّن؛ فكون الحداثة أنتجت عالمًا يعاني في تأسيس معقوليته وتفسير محيطه الوجودي، بعد علمنته وتجريده من أبعاده الدينية؛ لا يعني أن وظيفة الدين تنحصر في توفير إجابة عن سؤال المعنى، أو تقديم مخطط تاريخي بديل عن المخططات السائدة، أو المعدومة. 

خاتمة: 

إن تعاسة البشر جوهرية في بنية وجودهم في هذا العالم، ودواء ذلك في الدين، والصلة الإلهية، فهي التي تنقذ الفرد من نفسه، وتصبره على بؤسه، وتمنحه الأمل بالتعويض الأخروي المجزي. 



—المصادر:

تلخيص كتاب معنى الحياة في العالم الحديث- منصة كاتب وكتاب، واستشارات تربوية وتعليمية.

تعليقات

  1. جهاد العُمَري3 يونيو 2023 في 8:13 ص

    جميل جدا.. رغم ان الموضوع كان طويل جدا في رأيي
    لكن ابدعت في التلخيص ايضا
    وفعلا نحن بحاجة للتمسك بالدين لحل كل الالغاز في حياتنا
    أخوك جهاد العُمَري
    اليمن.. أقليم حضرموت.. محافظة شبوة

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بناء العادات

فن التعبير وأداة التواصل

بوصلة الذات