حين تكتب الذات نفسها

كثيرًا من أوقاتنا لحظات يملؤها الصمت الطويل، والانصات الذي لا يشبهه انصات آخر، وأنت تجلس مع ذاتك، تنظر إليها وتُحاكيها وتنسجُ خيالاً معها، ليس للكتابةِ عن الحياة وماهيتها، بل الكتابة عن ذاتك وعمقها الذي لا يعرفه أحدًا سوى أنت. 

عند رؤية مثل هذه المشاهد واللحظات تراها عادية، ولكنها تحمل في داخلها جوهرة وجودية ذات أثرٍ وعمقٍ بليغ، فالذات حين تقرر أن تكتب نفسها، فإنها تدخل في مواجهة مباشرة مع حقيقتها.

فهي أسئلة عالقة منذ زمن بعيد، تكتب عنها وتناقشها، تكتب عن طفولتك، عن الطفل الخائف أو المراهق المتسائل، ثمّة أشياء كثيرة يمكنك الكتابة عنها.

هي نافذة إلى ذاتك القديمة، إلى لحظاتها البسيطة اتي كانت تدور حولها البراءة والنظرة القصيرة التي كنت عليها. 

الكتابة عن الذات ليست ترفًا أدبيًا، ولا مجرد تمارين نفسية، بل هي أشبه ما تكون بفعل تطهير داخلي. عبرها، نُخرج ما علق بنا من الكلمات غير المنطوقة، من المشاعر المؤجلة، من المواقف التي لم نجد لها يومًا تفسيرًا. نكتب لأننا لم نُمنح دومًا فرصة للبوح. نكتب لأننا خُلقنا في عوالم تُقدّس الصمت وتخشى المواجهة. نكتب لأننا نحتاج أن نعرف: من نحن؟ وكيف وصلنا إلى ما نحن عليه الآن؟

في لحظة الكتابة، تنقلب الأدوار، نكتشف فجأة أننا لسنا واضحين كما كنا نظن، وأن في دواخلنا أشياء لم نعرف أنها هناك. كأن الذات تضع نفسها تحت المجهر، وترى ما لم يُرَ من قبل. 

هنا، الكتابة تتحول من مجرد تعبير إلى كشف، والكاتب لا يعود مجرد ناقل، بل شاهد على ما في داخله.

الكتابة عن الذات قد توقظ وجعًا قديمًا، أو تفتح جرحًا نسيه الزمن، لكنها في الوقت نفسه، تمنحنا فرصة للصلح مع أنفسنا، تجعلنا نراها من بعيد، كأننا نتأمل صورة قديمة لنا، بنوع من الحنو، أو حتى الغفران.

ليس كل أحد يملك شجاعة كتابة الذات، لأن في ذلك نزعٌ للأقنعة، وتعريةٌ للروح، واعترافٌ صامت أن “أنا لست كما ترون”.

لكن من يجرؤ على ذلك، يعود أقرب لنفسه. وربما، أكثر فهمًا للآخرين أيضًا.

حين تكتب الذات نفسها، فأنت لا تسرد فقط قصة، بل تُقيم حوارًا داخليًا، وتمارس نوعًا من الفهم الهادئ، وربما، تتقدم خطوة نحو النضج.

فامنح ذاتك فرصة أن تُكتب، قد تكتشف أنها كانت طوال الوقت تنتظر ذلك.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بناء العادات

فن التعبير وأداة التواصل

شذرات في الحب