الحضور الذي يخلّفه الغياب

من خلال ما يُشعر به المرء، إن الفراق هو امتحانٌ للنفس ومدى صبرها وصلابتها بمواجهة مثل الشعور التي تصيب النفس ومدى فاعليتها مع الأحداث اليومية التي نمرُّ بها. 

إنه يُشابه الحاضر الغائب في حياتنا، إنه ليس لحظةٍ عابرة نمرُّ بها أو كلمةٍ نسمعها وتُقال على أنها شيئًا عاديًّا، هو تلك اللحظة التي ينطفئ فيها كل شيء، وكأن الضوضاء لم يزر داخلك منذ الأزل، وتعيش في دوامة البحث عن معنى جديد في حياتك ليملأ الفراغ الذي تركه الغائب. 

ما يؤلم في الفراق أنه ليس له وقتًا للاستعداد والتهيئة شعوريًا له، يأتي ويقتلع كل ما في حياتنا من أشياء ظننا أنها جذور ولا يمكن لها أن تُزال. 

نحنُ قيمتنا بما نملكه من أحاديث ومشاهد قديمة تعيش بنا، وصورٍ تسكن في مخيلتنا، وكأنها مشهدٍ أبديَّ ننصت إليه، كل الأماكن التي مررنا بها معهم تتحوّل إلى شواهد صامتة، تنبض بالحضور الذي كان ثم انطفأ.

لكن الفراق ليس ألمًا قويًا لدرجة لا يمكن العيش به، حيث في أعماقه عذوبة خفيّة. إنّه يعلّمنا أن قيمة اللقاء ليست في امتداده الزمني، بل في أثره الذي يظل عالقًا في أعماقنا. من نفترق عنهم يرحلون بأجسادهم، لكنهم يبقون فينا على هيئة ملامح، كلمات، وروائح معلّقة في الذاكرة. كأن حضورهم يتكثف أكثر كلما غابوا، وكأن الغياب يمنحهم شكلاً أعمق في داخلنا.

الفراق أيضًا يربّي فينا الصبر، ويوقظ حسّ الامتنان. نصبح أكثر وعيًا بأن الحياة مؤقتة، وأن كل لحظة مع من نحب هي هبة لا ينبغي أن نهدرها. نصبح أكثر قدرة على الحنين، وأكثر صدقًا مع مشاعرنا.

ولعل أجمل ما يتركه الفراق فينا أنّه يكشف هشاشتنا الإنسانية. يجعلنا ندرك أننا لسنا سوى مسافرين على طريق طويل، نلتقي، نؤنس بعضنا بعضًا، ثم نفترق. وما يبقى حقًا ليس من ذهب معنا حتى النهاية، بل من ترك في قلوبنا أثرًا لا يزول.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بناء العادات

بوصلة الذات

فن التعبير وأداة التواصل