فلسفة العزلة واتساع الحضور الإنساني

من الأشياء النادرة في هذا العالم المزدحم بكل شيء، أصبح الصمت بوصفه شيئًا غريبًا ومختلفًا من يتملكه أو يعيشه ويجعله ضمن روتينية الحياة. 

نستيقظ على ضجيج الأخبار والأحداث التي أراها في العالم بشكلٍ أجمع، نتعاطى القضايا العالمية ونحن نبعد عنها آلاف الكيلوات والأمتار، وكأنها بالقرب منّا وقضية شخصية تمسُّنا، وتمسُّ المجتمع الذي نعيش فيه ونحن نتنفس  ضوضاء الأجهزة، وننام على أصوات لا تشبه النوم. كأن العالم كله يتحدث في الوقت نفسه، ولا أحد يُصغي إليه. 

العزلة، في وسط كل هذا، لم تعد ترفًا كما يظن البعض، بل ضرورة لتبقى أرواحنا قادرة على الإصغاء لأنفسها، كما أنها أمرٌ ضروريّ للغاية، بالتزامن مع ماذكرت هذا التدخل الكبير الذي يعيش في كل منّا، دون أن يعيش المرء في ذاته. 

إن العزلة هي ليست انقطاعًا عن الآخرين، بل عودة إلى الداخل، إلى النقطة التي يمكن أن نرى منها كل شيء بوضوح أكثر.

حين نختار العزلة، لا نهرب من الناس، بل نبحث عن مسافة آمنة بيننا وبين كل ما يربكنا.

في العزلة هنالك الكثير من التغيرات حيث تتغير الأصوات من الخارج إلى الداخل، نسمع حديث أفكارنا وكأنه يأتي من بعيد، نراجع المواقف، ونراجع تلك الأحداث القديمة التي حدثت، حيث تُراجع للتحسين ونتأمل تفاصيل الأيام التي مرّت دون أن ننتبه لجمالها أو ثقلها.

العزلة تمنحنا فرصة لمصافحة أنفسنا، لنرى من نحن بعيدًا عن أدوارنا، وأقنعتنا، وما ينتظره الآخرون منا.

لكن المشكلة أن العزلة قد تُغري بالامتداد.

نبدأها بنية الاستراحة، ثم نجد أنفسنا نبني حولها جدرانًا غير مرئية. جدران من الصمت، ومن الراحة الزائفة، ومن الخوف من العودة إلى الخارج.

نرتاح كثيرًا حتى نكاد ننسى شكل الحياة وهي تتحرك، وصوت الآخرين وهم يضحكون.

وهنا يتحول الصمت من دواء إلى عزلةٍ تُثقل القلب.

على الجهة الأخرى، الضجيج ليس دائمًا عدوًّا.

هو أيضًا شكل من أشكال الحياة، له إيقاعه الخاص، وله محبينه، ودفؤه الذي لا نجده في العزلة.

أحيانًا نحتاج أن نعود إلى الناس لنستعيد نبضنا، أن نسمع ضحكة طفل في الشارع أو صوت بائع ينادي أو صديق يشاركنا فكرة عابرة.

الضجيج، رغم فوضاه، يذكّرنا أننا ما زلنا جزءًا من هذا العالم. الحكمة ليست في أن نختار أحد الطرفين، بل أن نتقن العبور بينهما.

أن نعرف متى نصمت كي نفهم، ومتى نتكلم كي نُسمِع.

أن ندخل إلى ذواتنا لنرتّبها، ثم نخرج منها لنعطيها معنى.

السكينة التي نصنعها في العزلة تحتاج أن تُختبَر في صخب الحياة، لتثبت أنها حقيقية وليست هروبًا.

في النهاية، الحياة لا تُعاش في طرفٍ واحد.

العزلة تمنحنا العمق، والضجيج يمنحنا الامتداد، وبينهما المساحة التي تشبهنا.

مساحة صغيرة، لا يدركها الآخرون، لكننا نعرفها جيدًا حين نصلها. هناك، بين الصمت والصوت، نكتشف أنفسنا من جديد، ونفهم أن التوازن ليس أن نكون معزولين أو منغمسين، بل أن نكون أحياءً بقدرٍ كافٍ في كلا العالمين.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بوصلة الذات

فن التعبير وأداة التواصل

المثابرة طريق النجاح