لماذا نُفكِّرُ كثيرًا ؟
في حياتنا كثيرًا نواجه أقوال ورؤى عديدة وقاسية على أن التفكير بوصفه عبئًا علينا، ويُعامل صاحبه كأنه يفتعل القلق أو يبالغ في تحليل الأمور. يُقال له بنبرة تجمع بين الشفقة والنصيحة: لا تفكّر كثيرًا، وكأن التفكير خطأ طارئ على الإنسان، أو عادة سيئة يمكن التخلّص منها متى ما أردنا.
في الحقيقة أن عملية التفكير أبسط من ذلك بكثيرًا، فالتفكير ليس إلا نتيجة طبيعية للوعي، وكلما اتسعت دائرة الوعي، ازداد حضور الأسئلة في داخلنا.
نحن لا نفكّر كثيرًا لأننا نحب التعقيد، بل لأننا لم نعد قادرين على العيش بسطحية. فحين يبدأ الإنسان بملاحظة التفاصيل الصغيرة، وربط الأحداث، وتأمّل دوافعه الداخلية، يصبح التفكير فعلًا تلقائيًا لا اختيارًا. الوعي يفرض نفسه، ومعه يأتي التساؤل، لا بوصفه عبئًا، بل بوصفه محاولة للفهم.
التفكير في جوهره ليس قلقًا، بل هي خطوات بحثية من خلال يتعمق الإنسان بأمور كثيرة، من خلالها يُصاب بالشلل العقلي . غير أن البحث حين لا يجد إجابات سريعة، يتحوّل في نظر الآخرين إلى إرهاق، وفي نظر صاحبه إلى رحلة طويلة داخل الذات. فالتفكير الحقيقي لا يمنح الطمأنينة فورًا، بل يفتح مساحات جديدة من الشك والمراجعة. يجعلنا نعيد النظر في اختياراتنا، وفي علاقاتنا، وفي الأفكار التي اعتقدنا طويلًا أنها تمثلنا، ثم اكتشفنا أننا عشناها وورثناها دون مساءلة.
ولهذا يبدو التفكير متعبًا؛ لأنه في داخله صادق. الصدق مع النفس عمل شاق ومتعب ولا يمكن لأي نفس أن تجعل هذا السلوك اعتياديًا ومبدئ أساسي في حياته ، حيث أنه لا يرضى بالحلول السهلة ولا بالتصالح السريع مع الواقع. التفكير يضع الإنسان وجهًا لوجه أمام أسئلته المؤجلة، والعميقة، والطويلة، ويجبره على الاعتراف بما كان يتجاهله. وهو ثمن لا يدفعه إلا من قرر أن يفهم، لا أن يكتفي بالعيش.
غير أن المشكلة لا تكمن في التفكير ذاته، بل في أن يتحوّل إلى إقامة دائمة داخل العقل، بعيدًا عن الحياة. فالتفكير الذي لا يقود إلى فهم أعمق، ولا يمنح صاحبه رحمة أكبر تجاه نفسه، يتحوّل إلى عبء ثقيل. أما التفكير الذي يهدف إلى الترتيب، لا إلى الإدانة، وإلى الفهم، لا إلى الإنهاك، فهو ضرورة إنسانية وواجبة لا غنى عنها.
ليس مطلوبًا من الإنسان أن يمتلك إجابة لكل شيء، ولا أن يحسم أسئلته دفعة واحدة. يكفيه أن يسمح لنفسه بأن يفهم ذاته على مهل، وأن يعترف بأن بعض الأسئلة خُلقت لترافقنا، لا لتُحل. فالحياة ليست مسألة حسابية، بل تجربة متحركة، وكل محاولة لفهمها تستحق هذا القدر من التفكير.
لذلك، حين يُقال لك إنك تفكّر كثيرًا، فقد لا يكون ذلك عيبًا فيك، بل علامة على أنك تحاول أن تعيش بوعي. فالتفكير ليس مشكلة بحد ذاته، بل هو بداية الطريق نحو فهم أصدق للحياة، ونحو علاقة أهدأ مع النفس. وربما لا نحتاج إلى أن نُطفئ عقولنا، بقدر ما نحتاج إلى أن نصغي إليها دون خوف، وأن نسمح لها بأن تسأل، حتى وإن لم تجد الإجابة فورًا.
تعليقات
إرسال تعليق