المشاركات

عرض المشاركات من نوفمبر, 2025

حين يتكلّم الصمت

 في غياب من حولك والانفراد بذاتك دون أن يكون هنالك شيء من التأثيرات الخارجية، وحين تهدأ الحياة وتهدأ أنفاسك ويهدأ كل شيء حولك، تكتشف أن هنالك شيء أعمق من كل ما تراه في تفاصيل أيامك الماضية، تكتشف أن هنالك سرُّ غائب عنه أنت، سوف تكتشف أن هنالك حديثًا آخر لم تنصت له بعد، حديث يبدأ حين تسكت، وتفهمه حين تصغي، وتعيه حين تعود لنفسك بعد طول غياب. إنه الصمت. الصمت ليس خلوًا، بل هو امتلاء من نوع نادر، امتلاء بالبصيرة، باللحظة، بالوجود. هو ليس ذلك الفراغ الذي يهرب إليه منه الناس، إنه القيمة الغائبة عنّا، بل هو المساحة التي تُصقل فيها الأرواح وتصفو فيها الرؤى. الصمت يضعك بنقاشٍ مع ذاتك، مواجهةٌ مع نفسك، حديثٌ طويل يعتريكم، تخرجُ بفائدةٍ عظيمة، وحكمةٌ بصيرة، ومعرفةٌ قيّمة لذاتك.  في الصمت تتغيّر أفكار، تُرمّم جروح، تُولد قرارات، ويُعاد ترتيب الداخل بلا ضجيج. هنا يأتي الصمت، لا ليُسكت الخارج، بل ليعيد ترتيب الداخل. حين يفيض الصمت عن احتماله، ويتحول إلى كلمات. كلمات لا تُكتب ليرى الناس كم نحن مختلفون، بل تُكتب لأن أرواحنا تحتاج أن تقول شيئًا دون أن تصرخ. تُكتب لأننا لو لم نكتب، سنختنق. احتض...

فن البطء: كيف نستعيد أنفسنا في زمن يركض بنا ؟

في زمن يركض بنا أكثر مما نركض فيه، أصبح الشعور بالبطء رفاهية لا نتقنها كما ينبغي. كل شيء يتحرك بسرعة لا تمنحنا فرصة للتأمل: الأخبار تتغير، القرارات تُنتزع منا، الأيام تتكرر بإيقاع متسارع يتركنا في نهاية اليوم منهكين دون أن نعرف ماذا حدث بالضبط.  ومع ذلك، وسط هذا الضجيج، يظهر مفهوم بسيط لكنه يكاد يختفي من حياتنا.. البطء.  ليس البطء بوصفه تهاونًا أو كسلًا كما يظنه البعض، بل بوصفه استعادة هادئة لحق الإنسان في أن يعيش يومه بوعي، وأن يستعيد حضوره في تفاصيل حياته الصغيرة التي تتبخر تحت ضغط السرعة. السرعة تمنحنا وهم الإنجاز، تجعلنا نشعر بأننا نمسك بخيوط حياتنا، بينما نحن في الحقيقة نتحرك بدافع الخوف؛ نخشى أن نتأخر، أن نفشل، أن يسبقنا الآخرون.  حين نبطئ، نسمع ما لم نكن نسمعه. ننتبه إلى نبضنا، إلى أنفاسنا، إلى توترٍ عالق في أكتافنا، وإلى طمأنينةٍ نادرة نسينا كيف تبدو. ومع كل خطوة بطيئة، نحسّ بأن هناك حياة صغيرة كانت تنتظرنا في التفاصيل.  السرعة تجعل كل شيء يبدو مهمًا، بينما البطء يكشف لنا ما هو مهم حقًا. حين نتأمل قليلًا، ندرك أن كثيرًا مما نركض خلفه يمكن الاستغناء عنه، وأن م...

الكتابة وبحثها عن الإنسان فينا

في لحظاتٍ كثيرة في حياتنا ومشاهدها اليومية، حين نضيق من ضجيج الحياة واختناقها، نلجأ إلى الكتابة لا كترفٍ لغوي، بل كحاجةٍ وجودية.  الكتابة أراها في جوهرها الكبير هي فعل مقاومة، مقاومة للفوضى، مقاومة للنسيان، مقاومة للحياة بكاملها وعمقها الذي لا يمكنك أن تشعر ولو بجزء منه.  حين نكتب، نحن نُعيد للذات حقيقتها الأولى: تلك التي تفكّر، وتتأمل، وتُراجع، وتُصغي. من يكتب، ليس دائماً  يبحث عن ذاته الضائعة، ولا يبحث عن شيءٍ آخر وكأنها في حالة ضياع وتيه، إن الكتابة هي حالة تُشكّل مرآةً فكريةً تُعيد صياغة وعينا بما حولنا، وتدفعنا لنرى ما لا يُرى عادةً: التفاصيل الصغيرة، الانفعالات الصامتة، والمشاعر التي تمرّ دون أن تُقال. إنها مساحة يتجلّى فيها الإنسان الحقيقي؛ الإنسان الذي لا يخاف من هشاشته، ولا يُخفي تناقضاته، بل يُدوّنها كجزءٍ من رحلته في الفهم. كثيرون يظنون أن الكتابة تملأ الصمت، لكنها في الحقيقة تُنصت له. الحرف لا يُقال ليُسمَع، بل ليُفهم. ومن بين السطور، تولد أعقد الحوارات بين الكاتب وذاته، بين الذاكرة والحاضر، بين ما كان وما يجب أن يكون. في كل نصٍّ نكتبه، هناك أثر من لحظةٍ لم نف...

العزلة الرقمية

ونحن نعيش في الثورة الرقمية الرابعة، لم يعد الإنسان وحيدًا كما كان، لكنه أيضًا لم يعد حاضرًا كما ينبغي. نعيش في اتصال عميق مع الكل، وانفصال كبير مع ذواتنا. هذه العزلة الرقمية التي نعيش بها.  نكتب رسائل طويلة ونتحدث بعمق مع الآخرين ، ونشارك مانحبه وما نشعر به وما نراها مناسبًا أو ربما مضحكًا أو حزيناً. ولكن في نهاية اليوم يأتيك سؤال  بصمتٍ عميق  هل كان كل هذا الحضور حقيقيًا؟ لقد أصبح دور التقنية يساعدنا على الذي نريد أن نراه   نراه، لا بما نحتاج أن نفهمه. نرى العالم كاملاً من خلف الشاشات، دون أن نخطو خطوةً واحدة، ونقيس أرواحنا من خلال التفاعلات الإيجابية وكأن الشاشة هي المقياس الحقيقي لذاتك، وهي بحقيقتها لا تُنير الروح ولا تُسقيها تمامًا.  في العصر الحديث الإنسان لم يكن يومًا محاطًا بكل هذا العدد من الناس، ومع ذلك لم يكن أبدًا بهذا القدر من العزلة. يُمكنك أن تُحادث المئات في لحظة، لكن أن تُنصت لنفسك بات أمرًا نادرًا. نحن نعيش في صمت وغرابة مع ذواتنا، ونرى أن التأمل ترفًا وهو واجبٌ وحقًّا لذاتك بشكلٍ يوميّ صار الصمت بيننا غريبًا، والتأمل ترفًا، والعُزلة نوعًا من ا...

الأشياء التي لم نقلها بعد

بينما نمضي في أيامنا الطويلة والواسعة والأحاديث الكثيرة التي تمرُّ علينا ونناقشها، مع العيش بهذا النمط إلا أن هنالك أحاديث وأشياء بيننا وبين أنفسنا، لا تُقال، ولا تموت. تبقى هناك، في زاويةٍ من الذاكرة، تتنفس بصمت وكأنها لحظة  تنتظر الاعتراف. ليست بشكل كامل أنها دائمًا كلمات ثقيلة على نفوسنا أو أسرارًا دفينة بداخلنا من الممكن أحيانًا هي مجرد جملةٍ بسيطة أردنا أن قولها ولم نفعل، أو شعور مرّ بنا ولم نجد له وقتًا مناسبًا. الأشياء التي لم نقلها ليست نقصًا في الشجاعة، بل غالبًا هي فائض في الحساسية. نخاف أن نُثقل على الآخرين بما نحسّه، أو أن تُفهم مشاعرنا على غير وجهها، فنُفضّل الصمت. لكنّ الصمت لا يمحوها، بل يحفظها، كأنها مسوّدة حياة تنتظر إعادة الكتابة وإعادة الحياة لها.  كم من المرات حاولت أن تكتب شيئًا ولم تكمله، كم فكرة بدأت في رأسك ولم تولد على الورق، كم موقف أردت أن تتحدث عنه، ثم تراجعت خوفًا من أن تُفتح جراح قديمة؟  كل تلك «الأشياء التي لم نقلها» تشكّل جزءًا من ذواتنا، من قصصنا التي لم تُكتب بعد. ربما نحن لا نصمت لأننا لا نملك ما نقول، بل لأننا نملك أكثر مما يمكن للكلمات...