الكتابة وبحثها عن الإنسان فينا

في لحظاتٍ كثيرة في حياتنا ومشاهدها اليومية، حين نضيق من ضجيج الحياة واختناقها، نلجأ إلى الكتابة لا كترفٍ لغوي، بل كحاجةٍ وجودية. 

الكتابة أراها في جوهرها الكبير هي فعل مقاومة، مقاومة للفوضى، مقاومة للنسيان، مقاومة للحياة بكاملها وعمقها الذي لا يمكنك أن تشعر ولو بجزء منه. 

حين نكتب، نحن نُعيد للذات حقيقتها الأولى: تلك التي تفكّر، وتتأمل، وتُراجع، وتُصغي.

من يكتب، ليس دائماً  يبحث عن ذاته الضائعة، ولا يبحث عن شيءٍ آخر وكأنها في حالة ضياع وتيه، إن الكتابة هي حالة تُشكّل مرآةً فكريةً تُعيد صياغة وعينا بما حولنا، وتدفعنا لنرى ما لا يُرى عادةً: التفاصيل الصغيرة، الانفعالات الصامتة، والمشاعر التي تمرّ دون أن تُقال.

إنها مساحة يتجلّى فيها الإنسان الحقيقي؛ الإنسان الذي لا يخاف من هشاشته، ولا يُخفي تناقضاته، بل يُدوّنها كجزءٍ من رحلته في الفهم.

كثيرون يظنون أن الكتابة تملأ الصمت، لكنها في الحقيقة تُنصت له. الحرف لا يُقال ليُسمَع، بل ليُفهم.

ومن بين السطور، تولد أعقد الحوارات بين الكاتب وذاته، بين الذاكرة والحاضر، بين ما كان وما يجب أن يكون.

في كل نصٍّ نكتبه، هناك أثر من لحظةٍ لم نفهمها بعد، أو مشهدٍ لم يكتمل في وعينا، فنحاول عبر الكتابة أن نمنحه شكلًا ومعنى.

الكتابة فعل استمرارية، هي ليست حدثًا ينتهي بانتهاء النص، بل امتدادٌ لرحلة الإنسان في البحث عن المعنى. فهي تحفظ أثرنا الفكري، والكاتب الحقيقي لا يكتب ليمجّد ذاته، بل ليُضيء زاويةً في وعي الآخرين، ويترك فيهم أثرًا يشبه الطمأنينة أو السؤال.

أن تكتب، يعني أن تُعيد ترتيب العالم في داخلك.

أن تُمسك بالقلم، يعني أن تختار النور على الضجيج، والفهم على العبور، والمعنى على التكرار.

فالكتابة ليست مهنة، ولا هواية، إنها حالة وعيٍ راقٍ تُعلّمنا أن الإنسان الذي يكتب، هو الذي لا يزال حيًّا بما يكفي ليفهم نفسه والعالم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بوصلة الذات

المثابرة طريق النجاح

حين ترتبنا الفوضى