عن الحياة حين تُؤجَّل

لا تبدأ الحياة حين نقرر أن نعيشها، بل حين نكفّ عن ذلك الشيء الذي جعل وتيرة الحياة التي نعيشها أكثر بطءً وهو تأجيلها. ومع ذلك، نقضي أعمارنا ونحن نؤجّل دون أن ننتبه: نؤجّل الأسئلة الثقيلة، نؤجّل المواجهة على مستوى الأشخاص أو العالم بأحداثها، نؤجّل الإصغاء لذلك الصوت الخافت الذي بداخلنا.

 الذي يذكّرنا بأن ما نعيشه ليس بالضرورة ما نريده، بل هو واجبٌ وواقعٌ فرض علينا. 

لسنا غافلين تمامًا عمّا يحدث، نحن فقط متواطئون مع الراحة. نسمّي الاعتياد استقرارًا، ونسمي الخوف حكمة، ونسمي التراجع نضجًا. نعيد صياغة الكلمات لا لأن المعنى تغيّر، بل لأننا نحتاج إلى مبرّر أخلاقي للبقاء حيث نحن، وهذه سلوكيات عند الاعتياد عليها، سنفقد قوة قرارتنا مع الوقت. 

تمرّ الأيام متشابهة، لا لأن الزمن فقير بالاحتمالات، بل لأن وعينا اعتاد أن يمرّ مرور العابر. نحن لا نختار الطريق كل يوم، بل نمشيه تلقائيًا، ثم نندهش لاحقًا حين نكتشف أننا ابتعدنا عن أنفسنا خطوة خطوة، دون قرار صريح، ودون اعتراض حقيقي.

الفلسفة لا تبدأ بالسؤال الكبير، بل بالانتباه الصغير، بالتفاصيل التي لم تعطيها الانتباه الكبير لها، باللحظة التي نشكّ فيها في بديهياتنا، ونسأل: هل هذه الحياة تشبهني؟ أم أنني تعلّمت التكيّف معها حتى فقدت القدرة على الاعتراض؟ فالإنسان لا يُهزم دائمًا بالقهر، بل كثيرًا ما يُهزم بالاعتياد الطويل على ما لا يشبهه.

نخاف التغيير لا لأنه مؤلم، بل لأنه يضعنا وجهًا لوجه أمام مسؤولية المعنى. أن تختار يعني أن تتحمّل، وأن تتحمّل يعني أن تعترف بأنك كنت قادرًا على غير ما فعلت. وهذا الاعتراف أثقل من الخسارة ذاتها، لأن فيه انهيارًا هادئًا لصورة قديمة عن النفس.

ومع ذلك، لا يحدث التحوّل دفعة واحدة. لا تأتي الحياة الجديدة بضجيج، بل تبدأ غالبًا بشرخٍ صغير في اليقين، بتساؤلٍ صامت، بقلقٍ لا نعرف له اسمًا. ذلك القلق ليس عدوًا، بل علامة وعي. علامة على أن الروح لم تمت، وأنها ما زالت تطالب بنصيبها من الحضور.

أن تعيش الحياة فلسفيًا لا يعني أن تمتلك إجابات، بل أن تبقى وفيًّا للأسئلة. أن تسمح للشك أن يكون أداة فهم لا سبب شلل، وأن تقبل بأن الحياة لا تُستنفد في النجاة، بل تُختبر في المحاولة، وفي الجرأة على أن تكون حاضرًا بدل أن تكون مؤجَّلًا.

في النهاية، الحياة لا تُسرق منا فجأة، بل نغادرها تدريجيًا كلما اخترنا الصمت بدل الصدق، والاعتياد بدل المعنى. وحين ننتبه، قد لا نستطيع استعادة ما فات، لكننا نستطيع على الأقل أن نكفّ عن التأجيل، وهذا يتطلّب منّا مرونة طويلة الأمد وأكثر صبرًا وبالاًا طويلاً للغاية، المحاولة هي الحل والاعتياد عليها هو ذلك القرار الصائب الذي ينقذك من كوارث مستقبلية وحقيقية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بوصلة الذات

المثابرة طريق النجاح

حين ترتبنا الفوضى