الذين لا يكتبون وقلوبهم لا تصمت
ليست كل الحكايات والروايات والمشاعر التي تسكن بنا، والأحاديث الطويلة التي نحاكي بها أنفسنا تجد طريقها إلى الورق، هناك أناس يمرّون في الحياة بقلوب ممتلئة، عقولهم تغلي بالأفكار، وأطراف أرواحهم مشتعلة بالحروف، لكنهم لا يكتبون. ليس لأنهم لا يعرفون كيف يكتبون، أو كيف ينثرون ما بداخلهم على الورق، بل لأنهم اعتادوا الصمت حتى ظنّوه لغة. ولعلّ أعجبَ القلوب، تلك التي تحمل داخلها مكتبةً من العواطف المؤجلة، ونصوصًا لم تُكتب، وحوارات داخلية لا تنتهي، ثم تمضي في الحياة كأن شيئًا لم يكن. أعرف أولئك الناس أراهم في المقاهي، عند زوايا الانتظار، خلف النوافذ، وفي الطرقات، يحملون على وجوههم هدوءًا مربكًا، لكن لو أصغيت لقلوبهم، لسمعت أصواتًا تتداخل كمدينة في ساعة الذروة. هؤلاء لا يكتبون، ليس لأنهم لا يستطيعون، بل لأن الكتابة عندهم ليست هواية، ولا حتى احترافًا. هي خوف. خوف من أن يُصبح الكلام اعترافًا، ومن أن يُصبح النصّ قيدًا، ومن أن يتحوّل الحرف إلى مرآةٍ تكشف ما يُراد ستره. الذين لا يكتبون يعرفون جيّدًا كيف تُوجعهم التفاصيل الصغيرة رائحة عطرٍ يمرّ بهم وتعيدهم سنواتٍ للوراء، رسالة قديمة محذوفة لكنها لم تُنسَ...