المشاركات

كيف تصنع الكلمات حياة جديدة ؟

في أيامنا البسيطة التي نعيشها، هنالك تفاصيل صغيرة مُحمّلة في زوايا يومنا، يذوب في الزحام، وبعضها يترك أثرًا لا ننساه. عند الإمعان بها نكتشف أن هذه التفاصيل لم تكن عابرة أو عادية الحضور كما كنا نظن.  الكتابة هي وسيلتنا لنلتقط ما يفلت، لنحفظ ما كاد يتبخر، هي فنٌ للالتقاط للأشياء التي لو تركناها للحظة لذهبت دون أن نعلم. هذه كلها أشياء صغيرة، لكنها في الكتابة تتحول إلى نسيج عميق يحملنا نحو فهم أنفسنا والعالم من حولنا. ما أجمل أن تعيش الشيء دون أن يكون لذاته، بسببٍ حدثًا كبيرًا، أو قراءة مشهد وجب ذلك، بل أن يُنفّذ دون أن يُطلب منك، مثل ابتسامة عابرة نصًا يُقرأ، ومن شعور داخلي فكرة تُلهم، ومن صمتك جملةً تقول ما عجزت عنه. حيث أن الكتابة هنا لا تكون مجرد هواية أو عادة، بل تصبح حياة أخرى موازية، أكثر صفاءً، وأقرب إلى القلب.  وحين نتأمل، نكتشف أن الكتابة ليست فنًا نخاطب به الآخرين فقط، بل هي حوار داخلي صادق نابع من أعماقنا ومن أحاديثنا الداخلية التي لم ننصت لها بعد.  هي المرآة التي نرى فيها وجوهنا كما هي، بلا تزيين ولا مجاملة. هي صوتنا حين نحتاج أن نسمع أنفسنا، ويدنا حين نبحث عن سن...

الهدوء في زمن الفوضى

وسط ضجيج الحياة وصخبها التي لا تهدأ، والذي يجعلك بعيدًا عن ذاتك وعن الهدوء الكبير في داخلك، نكتشف حينها أننا نعيش في عالم لم يعد يعرف الصمت.  كل شيء حولنا يركض بسرعة ودون توقف له ولا يُسمح له بتاتًا الوقوف، وكأن الصمت تهمة يجب محوها بأي صوتٍ عابر، ومع ذلك، يظلّ في داخل كل واحدٍ منّا توقٌ دفين للحظة هدوء، للحظة يلتقي فيها الإنسان بنفسه بعيدًا عن كل ضوضاء. الهدوء ليس لمجرد الهدوء لذاته، بل هو حالة وعي، حالة صافية تنسجم النفس مع ذاتها، حيث التناغم الكبير الذي يحدث بين القلب والعقل، ويتنفس المرء بعمقٍ كأنه يعود إلى ذاته من جديد،  تلك اللحظة التي يتوقّف فيها الزمن قليلًا، فنسمع أنفاسنا، ونبصر تفاصيل كنا نغفلها، ونشعر أنّ للحياة وزنًا ومعنى. إن غالبية الفوضى التي بداخلنا هي نابعة من أفكارٌ متراكمة، قلقٌ من المستقبل، عدم توازن الحاضر، الهروب من الماضي، تردّد بين القرارات التي تخطط لها، شعور بأننا نلاحق كل شيء ولا نمسك بشيء. هذه الفوضى الخفية هي الأشد إنهاكًا، لأنها تلتهم صفاءنا دون أن نشعر. الهدوء في زمن الفوضى ليس خيارًا عابرًا، بل أسلوب حياة. هو التوازن الذي يمنحنا القوة لنعيش وسط ...

الحضور الذي يخلّفه الغياب

من خلال ما يُشعر به المرء، إن الفراق هو امتحانٌ للنفس ومدى صبرها وصلابتها بمواجهة مثل الشعور التي تصيب النفس ومدى فاعليتها مع الأحداث اليومية التي نمرُّ بها.  إنه يُشابه الحاضر الغائب في حياتنا، إنه ليس لحظةٍ عابرة نمرُّ بها أو كلمةٍ نسمعها وتُقال على أنها شيئًا عاديًّا، هو تلك اللحظة التي ينطفئ فيها كل شيء، وكأن الضوضاء لم يزر داخلك منذ الأزل، وتعيش في دوامة البحث عن معنى جديد في حياتك ليملأ الفراغ الذي تركه الغائب.  ما يؤلم في الفراق أنه ليس له وقتًا للاستعداد والتهيئة شعوريًا له، يأتي ويقتلع كل ما في حياتنا من أشياء ظننا أنها جذور ولا يمكن لها أن تُزال.  نحنُ قيمتنا بما نملكه من أحاديث ومشاهد قديمة تعيش بنا، وصورٍ تسكن في مخيلتنا، وكأنها مشهدٍ أبديَّ ننصت إليه، كل الأماكن التي مررنا بها معهم تتحوّل إلى شواهد صامتة، تنبض بالحضور الذي كان ثم انطفأ. لكن الفراق ليس ألمًا قويًا لدرجة لا يمكن العيش به، حيث في أعماقه عذوبة خفيّة. إنّه يعلّمنا أن قيمة اللقاء ليست في امتداده الزمني، بل في أثره الذي يظل عالقًا في أعماقنا. من نفترق عنهم يرحلون بأجسادهم، لكنهم يبقون فينا على هيئة ...

فرويد والألم

لا شيء مثل الألم يجعل الناس يتغيرون، في هذه الكلمات يُجسّد الألم الطبيب النفسي الشهير ومؤسس علم النفس الحديث سيغموند فرويد، مُعبرًا عن الألم كقوة داخلية تؤثر  على جوهر الحياة وتغيراتها. إن الألم بمفهوم فرويد كتب عنه عدة إشارات أُسميها " إنذارات " للحياة وكيفية مواجهتها، يعتقد بأن الألم تنبيه للكائن الحيّ إلى وجود خلل أو تهديد في حياتك وشخصيتك الذاتية الداخلية، وبهذا يحتاج إلى معالجة فورية.  وأشار أيضًا مُعرّفًا عن الألم وأنواعه وكيفية التفرقة بينهما،  أن الألم النفسي أقوى من الألم الجسدي لِما له من ارتباطات عاطفية ووجدانية في داخل الإنسان، عكس الألم الجسدي الذي نابعًا أو ناتجًا عن إصابة حدثت.  إن ترابط الألم واللذة كما يُسميها، يرى أن الإنسان باحثًا عن اللذة أو الراحة في عتمة الألم وتواجده، بالنسبة له، ليس إلا انقطاعًا أو تهديدًا لهذه الحالة من التوازن. إن الكبت الذي نفعله ونمارسه كممارسة أقل ضررًا في حياتنا، ولا تشكل أهمية ولا عبءً على ذواتنا، إذْ إن قمع الرغبات والحرمان منها، هو ولادةٍ جديدة من الألم النفسي، حيث أن هذا الألم ليس شعورًا عاديًا عابرًا بل يتجسّد في أع...

الهوية في العصر الرقمي

منذ فجر التاريخ والإنسان كائن باحث عن وجوده، حيث يشكّل لديه هذا البحث سريان حياته بكاملها، ومن خلالها يبدأ محاولاً أن يرسم ويبني لنفسه هوية تشبهه وتليق به، إذْ أن الهوية متقلّبة وليست ثابتة، بطبيعة الحياة وتقلباتها والمعارف والأفكار المستحدثة التي تأتيك في كل ليلة.  إن الثقافة والدين والمكان والتجارب والمعتقدات الشخصية، عامل مهم وكبير في بناء الهوية لدى الإنسان، ومؤثرًا بشكلٍ يجعله يصبح في هوية ويمسي في هويةٍ أخرى، تلك الحياة وخفاياها.  ما ذكرته نابعًا من الزمن القديم وإلى الثورة الكبيرة التي نعيش بها، العصر الرقمي وانفجاره غير المسبوق في وسائل التواصل وحياتنا بشكلٍ خاص، لِما له من تأثيرات تؤثر على طبيعة الحياة اليومية البسيطة التي عاشها من قبلنا، وما زلنا نعيشها، تلك التفاصيل التي تضيف جوهرٍ خاص في حياتنا.  ولكن مع هذا الاضطراب التي نعيش به، يتشكّل لدينا أسئلة كثيرة بسبب التفاصيل التي لا تنتهي، وكأنها مثل دائرةٍ تدور حول نفسها، هذا في الواقع ما يحدث.  ما هي النسخة التي يجب أن نظهرها لهذا الفضاء المتسع، وهل هي حقًا تشبهنا تزامنًا مع الحياة الحقيقية التي نعيشها ؟...

حين تغيّرك العادات

إن بناء العادة التي تجعل منك شخصًا مختلفًا ومؤثرًا في محيطك، ليس ترفًا، بل هو استثمار طويل الأمد في ذاتك. العادة هنا ليست مجرد سلوك متكرر، بل هي ممر هادئ يقودك إلى نسخة أعمق وأكثر وضوحًا منك. حين تنسج لنفسك خيطًا صغيرًا من السلوك الإيجابي، فأنت في الحقيقة تبني جسرًا نحو حياة أكثر ثراءً وحضورًا. إن تواصلك مع محيطك الاجتماعي، من خلال هذه العادات، يعزز من وجودك، حتى ذلك الوجود الذي قد يبدو للآخرين بلا مبرر واضح، لكنه بالنسبة لك يحمل معنى داخليًا عميقًا. التواصل هنا ليس مجرد كلمات تُقال، بل هو أثر يتركه أسلوبك، وتصرفاتك، واستمراريتك في المشهد العام. العادات الصغيرة قد تبدو ضئيلة في لحظتها، أشبه بقطرة ماء على صخرة. لكنها، مع مرور الأيام، تحفر مجرى عميقًا يغيّر ملامحك وملامح حياتك. قد تبدأ بقراءة صفحة، أو كتابة فكرة، أو ابتسامة تُهديها لشخص عابر، لكن هذه التفاصيل الصغيرة تترابط مع الزمن لتصنع فرقًا أكبر مما تتوقع. في النهاية، ليست القوة في التغيير المفاجئ، بل في التراكم الهادئ. فالجبال تُبنى من ذرات الرمل، والإنسان يتشكل من عاداته.

الذات بين الواقع والتواصل

 في زمن التواصل المتواصل، يبدو أن الإنسان يُطالَب بالحضور المستمر لا بوصفه ذاته، بل بما يليق بالمكان الذي يظهر فيه. تارةً بشخصية واقعية في حياته اليومية، وتارةً أخرى بشخصية أحب أن أسميها “مُعدّلة” تليق وتناسب لمنصات التواصل. هذا التكرار في “تبديل الوجوه” قد يُفقد الإنسان ملامحه الأصلية، إذ يصبح مع الوقت عالقًا بين صورتين: واحدة ترتدي قناع الواقعية، والأخرى تتقن التكيّف مع متطلبات الجمهور الرقمي. مع هذا الانقسام، أرى أن الإنسان يبدأ يفقد ذاته الحقيقية، تلك الذات التي رافقته في صمته، في طفولته، في لحظات وحدته. يصبح وجوده موزّعًا بين شخصيتين، لكلٍ منهما توجه خاص، وصوت خاص، وحتى رغبات مختلفة. التوازن هنا ليس خيارًا، بل ضرورة. لا أدعو للانسحاب الكامل، ولا للذوبان الكامل، بل للسيطرة. أن نكون حاضرين بوعي، لا بمجاراة. أن نُظهر شيئًا من ذواتنا الحقيقية، لا نسخًا معدّلة منها. في هذا الواقع الضاغط، على الإنسان أن يسعى ولو قليلاً للقبض على ما تبقّى من ذاته، قبل أن يعتاد الظهور أكثر من الوجود.